Saturday 11th october,2003 11335العدد السبت 15 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

لعنة الأرقام في مدار السرطان.! لعنة الأرقام في مدار السرطان.!
عبدالعزيز السماري

عندما يتحدث رواة التاريخ عن أدوار العرب الذهبية في حلقات تطور علوم الأرقام والحساب واللوغاريتمات، فلا يعني ذلك أنه من باب التذكير بأمجاد العرب، وبأدوارهم التاريخية في سلم الحضارة الإنسانية، إنما قد يعني بعداً أخر، أو قصة حزينة تدرّس كعبرة للأجيال القادمة، فالأرقام التي طورها العرب أضحت «شاهداً» على حالهم، وحال من جاورهم من بلاد المسلمين، وربما يأتي الزمن الذي ينكر فيه العرب أن كان لهم دور أو صلة بتاريخ تطور الأرقام، أو في حق إضافة الرقم «الصفر» للأرقام التسعة...
فما تسجله بيانات الأرقام في العصر الحديث عن أوضاع «العرب»، يشيب له الولدان، ويهرم بسببه في مقتبل العمر الإنسان،. حيث لم تتوقف منذ زمن دراسات طبائع الحضارة البشرية، ونتائج الأبحاث الميدانية، وأرقامها ومعدلاتها عن جلد أحوال العرب الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وعن كشف مستوى رداءة شؤون الإنسان العربي وضياع حقوقه،.. ومسلسل إدانة التقارير الدولية الصادرة عن منظمات دولية محترمة لأوضاع العرب لم ينته بعد، وربما سيتأخر كثيراً إعداد.. حلقاته الأخيرة..
فالتقرير العربي للتنمية البشرية، والتقرير الدولي للتنمية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، وتقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وتقرير منظمة «هيومان رايتس ووتش» يجمعون علي نتيجة واحدة لا خلاف عليها، ألا وهي تخلف الدول العربية في مجال التنمية البشرية والحقوق الإنسانية.. ولم تكد تخفت أصداء تبريرات وضوضاء استنكارات حدة «أرقامها» وقسوة نتائجها، حتى صدر تقرير مؤسسة بيت الحرية، في نيويورك، والتي نشرت قائمة «بالأرقام والدرجات» لكل فئة من الدول، فعندما تحصل دولة على درجات من صفر إلي 30، تصنف من الدول التي لديها صحافة حرة، ومن 31 إلي 60 صحافة حرة جزئيا ونسبيا، ومن 61 إلى 100 صحافة ليست حرة.. وكانت النتيجة مخيبة للتطلعات حقاً، حيث جاءت أربع دول عربية بدرجات 38، 48، 53، 60 على التوالي، ضمن دول الصحافة الحرة نسبيا، أما باقي الدول العربية فجاءت في ذيل القائمة، أي ضمن تصنيف قائمة الدول التي لا تتمتع فيها صحافتها بالحرية...
ويزيد الوضع تفاقما، ظهور تقرير منظمة الشفافية الدولية مؤخراً، حيث حملت ملفاته أدنى الأرقام وأقلها قيمة حضارية عن معدلات «فساد» العرب ومعظم بلاد المسلمين، فأغلب البلاد العربية احتلت موقعاً متدنياً بين الأمم في تقرير المنظمة عن الفساد والشفافية، وقد أسهب التقرير في تناول أنواع الفساد في ما أطلق عليه جغرافياً «منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، وهو ما يعرف بالعالم العربي في الذهنية العربية التي ترفض «عولمة» المصطلحات الغربية.. والفساد في بلاد العرب يختلف بين فئات المجتمع وسلطاته، حيث حذر التقرير من انتشار مايسمى بالفساد العظيم (grand
corruption)، وهو ما يرتبط بفنون إدارة
العقود والصفقات وما يصاحبها من اتفاقات جانبية، وعلى مستوى الفرد «العادي» طغى على السطح فساد «الكاش» (petty cor
ruption)، فالإنسان العادي يستغل موقعه
أحياناً لزيادة دخله من خلال تذليل الصعوبات التي صنعها «بذكاء»، وذلك من خلال الإيحاء للعميل أو المستفيد من خدماته لدفع «رقم» يفك شفرة صده وامتناعه عن أداء مهمته الوظيفية..
كما ربط معدو التقرير بين، متاعب زيادة التوترفي الشارع العربي وقضية هروب الخبرات العربية ولجوء رؤوس الأموال العربية إلى الخارج وتدني معدلات الاستثمار الأجنبي، وبين أجواء أرقام الفساد العربي.. وعزا التقرير نفور الأرقام «المميزة» عن حال العرب إلى غياب المؤسسات المدنية غير الحكومية والشفافية وحرية التعبير والديموقراطية والقانون.. وحقوق الإنسان!
والجدير بالذكر ان البحث في جذور التخلف العربي أصبح شأناً عاماً يتسلى به الندماء أحياناً، وفي أحيان أخرى، تقام من أجله الندوات والمؤتمرات، وتمنح في أبحاثه الدرجات العلمية لأولئك الذي أفنوا حياتهم في البحث عن أسبابه في بلاد الشرق، وقد اختلفت الأسباب من باحث إلى آخر، فهناك منْ يجعل من غياب الحرية سبباً رئيسياً، ويرفع آخرون شعار غياب أخلاق الإسلام عن واقع الحياة وأحداثها، بينما يؤكد التكنوقراط أن أحد أهم أسباب التخلف العربي والإسلامي الرئيسية تكمن في إهمال وتغييب العلم والتعليم والبحث العلمي، واستندوا في ذلك إلى إحصائيات تكشف مدى الهوة بين ما تنفقه دولة مثل مصر على التعليم والبحث العلمي مقارنة بما تنفقه دول مثل إسرائيل وكوريا الجنوبية وماليزيا...
وإن تعددت الأسباب، فالتخلف واحد، وخصوصيته العربية والإسلامية جديرة بالفعل بالتأمل، ويبدو أن في الأمر غموضاً، فلا يعقل بعد ظهور هذه التقارير البشعة، ألا يتململ العرب من حالهم البائسة، أو ألا يحدثوا نوعاً من التغيير، يخفف من وطأة لعنة «الأرقام»، ويبدد من هيمنة ردود فعل الاستسلام والركود واللامبالاة، بدلاً من الإصرار على ندرة الأسباب وان الوضع «تمام»، والذي قد يرفع من أسهم رأي الذين يدينون «بيولوجيا»الإنسان العربي، فهو حسب تشخيصهم فاسد بطبيعته، لكن تبقى هذه المقولة ضرباً من جنون الواقع العربي، فجلد الذات أضحى طبعاً عربياً، أشعلته الأرقام وعلامات الدرجات الدنيا في «ملف» العرب الحضاري في مدرسة التاريخ.. وفلاسفة التاريخ أمثال ابن خلدون وهيغل كان لهم رأي أخر عن شروط الحضارة الإنسانية، وحول دور المناخ في تحديد طبيعة الدولة والعمران، فالحضارة البشرية عند هذين العالمين ناتج الصراع من أجل البقاء وإشباع الحاجات، ويقسم ابن خلدون العالم الأرضي إلى سبعة أقاليم، ويحدد علاقاتها بقابلية العمران، وهو ما دل على وجود جذور لقضية خصوصية التخلف العربية في طبيعة الإقليم الثاني، الذي يضم معظم العالم العربي في الغرب الأسيوي، وشمال أفريقيا، حيث الصحراء والجفاف وندرة الماء وشدة حرارة الطقس..، وحيث مدار السرطان، الذي تشترك في القرب من خطوط عرضه معظم الدول التي اعتادت الجلوس في المقاعد الخلفية، فلو تتبعنا الدول التي يمر فيها هذا المدار، ثم بحثنا عن أرقامها في بيانات الحضارة البشرية، لربما اقتربنا من تشخيص الحال العربية ،و كشفنا عن أحد اهم أسبابها، فأرقام دول أواسط أفريقيا وأمريكا الوسطى وأفغانستان وباكستان ومنغوليا حافلة بمواقع كراسي المؤخرة في سباق الأمم...
والعلوم الإنسانية تتحدث بإسهاب عن طبائع الساكنين بالقرب من ذلك المدار، وعن موعدهم الدوري مع تعامد الشمس على أراضيه، حيث يكون وهج الإشعاع الشمسي في أقصاه، وفي أوج شدة لهيبه على «رأس» الإنسان، ولعل تغييراً ما تحدثه تلك الأشعة في عقول ساكني مدار السرطان، يفسر تنافسهم الشديد على درجات المؤخرة في سلم الحضارة، فتصلب الخلايا، وتحجر عقولهم، ربما يحد من قدراتهم على إحداث التغيير، وقرارالتغيير هو أصعب وأجبن قراراتهم، وأقساها على مجتمعاتهم، ولو حدثت معجزة ما، واتخذ سياسي عربي شجاع خطوات جريئة في سبيل الخروج من المؤخرة، جذبته إلى الخلف أيدِ خفية..، وعابت عليه إحداث أمر غير مألوف، واستحداث «بدعة» لا يقبلها تقليد العرف، ولا طبيعة العقل، الذي فقد صفات «الانكماش»، و«التمدد»، و«القدرة» على التكيف مع شروط الحضارة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved