Saturday 11th october,2003 11335العدد السبت 15 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

يارا يارا
أزيك يا بكر
عبدالله بن بخيت

في بلاد الإنجليز كل الفصول تبدأ في مواعيدها. هذا ما قاله لي عجوزان يجلسان في نزهتهما الأخيرة قبل أفول فصل الصيف عندما لاحظا أني أنتفض من البرد. تركت المقعد والحديقة كلها واتجهت إلى السكن وجمعت حوائجي وقررت الرحيل إلى لندن. وقبل التوجه إلى محطة القطار اتجهت إلى حرم جامعة لانكستر لتوديع زملاء البعثة السعودية. ولأنني لا أعرف رقم غرفة بكر الشدي لم أجد من بد أن أقف في منتصف الساحة وأصرخ: يا بكر. فجأة فتحت النوافذ وأطل سكان الحرم الجامعي بأسرهم وبينهم بكر حيث صرخ هو أيضا: «أزيك يا عبد». وأمام دهشة طلاب الجامعة الأجانب واصلنا أنا وبكر حوارنا الصارخ. فقلت له: أنا ماشي على لندن بس حبيت أودعك عايز حاجة. فقال: سلامتك بس ما تنساش تمر على «تن دوننغ ستريت» وتسلم لي على الست تاتشر، وحشاني أوي وقل لها أحنا حنمر عليها ونجري معها الحوار اللازم.
كان الرئيس المصري السادات في أواخر السبعينيات نجم كل الإذاعات والتلفزيونات العالمية ويتكلم اللغة الإنجليزية بلهجة مصرية. كنا نقلده في الكلام. كان بكر الشدي هو أبرعنا في ذلك. وبلغ الأمر ان بكرا ترك لهجته السعودية نهائياً وصار يتكلم مع الناس بلهجة مصرية بطريقة السادات. كانت تلك الرحلة الصيفية إلى جامعة لانكستر أول لقائي به. أحببته وشعرت انه من النوع الذي يصلح ان يكون صديق العمر. ولكن طبيعته الخجولة لم تسمح له ان يكون من الشباب ذوي الطابع الاقتحامي. يترك مسافة ثابتة بينه وبين أصدقائه يعوضها بابتسامة لا تغيب عن فمه. ومع ذلك كان يصنع الأصدقاء بسهولة. فتوثقت علاقتي به أثناء الدراسة. ولكن الأيام بالإضافة لتلك المسافة باعدت بيننا. الشيء الذي أحببته في بكر الشدي انه لا يتغير. في كل مرة ألتقيه، بعد سنة أو سنتين وأحياناً أكثر كنا نتحاور بنفس روح الأيام القديمة. وكأننا ما زلنا في أواخر السبعينيات بجامعة لانكستر الإنجليزية.
عندما زرته في المستشفى بعد أن عرفت خبر مرضه لم أستطع ان أتمالك نفسي وأن أبقى على تقاليد الزيارات المعتادة. صرخت بصوتي الذي سمعه في لانكستر: أزيك يا بكر. كان فاقد القدرة على الكلام ولكنه لم يفقد القدرة على الابتسام، فأشعت الابتسامة القديمة من بين ركام السنين والآلام. وأطلق عدة تنهيدات فأخذت أحدثه عن مشروع برنامجنا الساخر الذي أسسناه أنا وهو وصديق يماني كان يدرس معنا في الجامعة بعنوان «مع الفاشلين». كان يهز رأسه ويقاتل سطوة الحنين للأيام الخوالي. كان يحرك يده إذا تطامن صوتي أو لاحظ أني سأغير الموضوع وأسأله الأسئلة التقليدية. كان يريدني أن أوغل في عالم الذكريات. كان يريد أن يضحك. فتماديت حتى أنني لم أعد أشاهد بكر الشدي الذي أمضه المرض. كنت أشاهد أيامنا القديمة. شباب كلية الآداب. رغم أننا كنا نعرف ان الموت كان يحوم في تلك الغرفة حتى أننا كنا نسمع رفيف أجنحته الضارية وهي تحف بالسرير الذي كان يرقد عليه. تلك كانت آخر مرة شاهدته فيها.
رحم الله بكر الشدي وأسكنه فسيح جناته.

فاكس: 4702164

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved