Friday 31th october,2003 11355العدد الجمعة 5 ,رمضان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

رمضان.. ذاكرة شخصية رمضان.. ذاكرة شخصية
د. فوزية عبدالله أبو خالد

مع أنني غالباً ما أخون مرحلتي العمرية بالانحياز إلى أحلام الأطفال والشباب الصغار فلا أقبل مسلمات الكبار المتيبسة التي تحتمي من منحنيات الحاضر وانحداراته الحادة بالحنين إلى الماضي والعيب على الزمان إلا أنني لا أستطيع أن أفعل ذلك عندما يتعلق الأمر بشهر رمضان.
فانحيازي للأحلام الفتية وأصحابها يبدو أنه لا يشفع لي بعدم الإقرار بيأس الكبار وبالذات هذه الأيام.
فهذا الشهر الذي شهد تاريخياً من يوم موقعة بدر أنقى الانتصارات العربية والإسلامية يشهد اليوم أحلك حالات تخبطنا في مواجهة التحديات. ولأن موضوع مقالتي أقل مما تقتضيه الوقفة التاريخية فان على الذين يريدون مراجعة ذاتنا الاجتماعية وتاريخها السياسي ان يتوقفوا عند هذه النقطة من القراءة دون ان يتجشموا عناء المتابعة إلى النهاية لأن ما أريد قوله هنا لا يعدو ان يكون شيئاً من شجن الأشواق الشخصية التي قد تلتقي بالصدفة أو لا تلتقي مع بعض من أوجاعنا الجماعية أو ملذات الذاكرة الجمعية وجراحها.
كان رمضان يجيء قبل أن تثبت رؤية الهلال فتصل إلى بيوتنا تباشيره قبل إعلان التلفزيون لثبوت الرؤية كنا نحس وقع اقدامه الخفيف من ذلك الحفيف الذي يبعثه في أرواح البشر ومن تلك الرائحة الرحمانية التي تسري في عناصر الهواء.
كان شهر رمضان مهرجانا من التجارب المثيرة لأخيلة الطفولة فمن تجربة الصوم إلى نصف نهار إلى تجربة الصوم إلى صلاة العصر، ومن تجربة الصوم إلى أذان المغرب مع المضمضة كلما شعرنا بالعطش وإن انجرح الصيام برشفة ماء إلى تجربة الإمساك كاملة.
ومن تجربة الصحو المشحون بالدهشة والنعاس معا وقت السحور إلى تجربة تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود بيقظة مبكرة. ومن إثارة مرافقة الأمهات إلى صلاة التراويح وملاحقة جراد الضوء وفراشاته عند «لمبات» مدخل المسجد إلى المشاغبات بين صفوف المصليات قبل أن ندخل ملكوت تجربة صلاة الجماعة وملاذاتها الشاهقة.
كان شهر رمضان لحظة فك الريق يعني لي «التطلي» الفواح برائحة روح الموز، و«القطايف» المبهرة بالهيل والقرفة وزهر الليمون، و«السمبوسك البوف» البيتي التي ترقها أمي أرق من ورق السلفان بحركة واحدة من كفها على شكل نصف قمر. فتشف العجينة بعد قليها كبيارق صغيرة مذهبة عن عروق الشبت والنعناع والبقدونس من خلطتها السرية الحجازية التي لا يعرفها إلا نساء مكة.
وكان رمضان وقت السحر يعني لي رائحة المرقوق أو «الرز بالربيان المجفف» أو «المراصيع» و«الحنيني». وكأن أمي وأبي اقتسما العادات الغذائية لمرجعية كل منهما الأسرية مناصفة.
كان شراب التوت ومنقوع قمر الدين و«السوبيه» وماء زمزم واللبن الروب بعضاً من المفردات المائية التي يلون بها رمضان حرقة العطش في أيام مدرسية طويلة لم تكن كما صار الحال اليوم تبدأ بعد التاسعة صباحاً. كان الباص «التوبيس» الرئاسة الأصفر بالضبط مثلما وصفه جاري بالجزيرة أبو يارا، يمر في حاراتنا أياً كانت المدينة وكأنه نفس الأتوبيس، بنفس الخالة المرافقة ونفس العم السائق يتنقل بين المدن تمام الساعة السادسة. فيجدنا مجموعات، مجموعات من البنات بالمرايل الطويلة الرمادية أو الخضراء والشعر المسفوع بضفائر سوداء مموجة إلى الخلف قد تجمعنا عند النقطة المعتادة على مطلع الحي في دوائر صباحية مثل نوافير الماء وكأن رمضان يشحن العصافير بمزيد من طاقة التغريد والحركة.
كان رمضان ان يولم للوالدين أو الأجداد في حالة وفاتهم. وكنت أؤخذ بتلك الحكايات عن أحلام الأمهات والآباء التي يقصونها على بعضهم البعض دون ان ينتبهوا أننا نسمع أو ربما بتعمد إسماعنا لفتح عيوننا على عادة البر وان بطريقة لا تخلو من الأسطورية. فيخبرون بانهم حلموا بأمواتهم عطشى يشيرون إليهم بطلب الشراب أو بانهم في انتظار ان يبعثوا لهم بشيء يشتهونه أو بشيء مما كانوا يحبونه من الطعام. فكانت تخلبني وتخيفني في نفس الوقت فكرة ان الموتى يتخاطبون مع الأحياء ويبلغونهم رغباتهم. فلا يعادل حماسنا حماس ونحن نساعد في حمل بعض أطباق الطعام إلى المسجد والى بيوت الجيران قبل أن يضرب المدفع. فهل توقف إطلاق المدفع لحظة الإفطار في رمضان الآن أم أننا نحن الذين لم نعد نسمع ذلك الصوت العذب بعد أن نزعت حروب الجوار والانفجارات غير البعيدة نزعة البراءة منه ومنّا.
كانت لي وقد لازمتني إلى أن كبرت عدة متع كبرى من متع شهر رمضان. فغير متعة السمو والمساواة التي يسمح لنا الصيام الإحساس بها خاصة إذا كان الصيام في ذروة الانغماس في العمل وليس مجرد امتناع عن الطعام ونوم في النهار كانت المتعة الأولى في البداية التسابق على ختم أجزاء من القرآن إلى أن صار على ختم القرآن. فحين بلغت المرحلة الأخيرة من طفولتي ان كان لطفولة من هم مثلي مرحلة أخيرة كنت أتسابق في القراءة مع أمي وان كانت تلك الباسقة دائماً ما تسبقني.
ثم متعة التجمع مع جميع من بالبيت لحضور دعاء الختمة وشرب ماء «القراية» المزعفر.
أما المتعة الأخرى فكانت انتظار هلة محيا الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله كل مساء رمضاني على التلفزيون السعودي الذي لم يكن لنا سواه. وقد ارتبط شهر رمضان لسنوات طويلة في نفسي بطلة الشيخ البشوش المقنع إلى درجة انه لو طلب مني ان أرسم صورة لشهر رمضان في صغري لرسمت ذلك الشيخ بابتسامته الجذابة وقدرته على الوصول إلى العقول والقلوب بغض النظر عن أعمار مشاهديه.
لم يكن «قرقعان» جزءاً من طقوس رمضان في كتاب ذكرياتي كما صارت تجري العادة بين أطفال المملكة اليوم فلم أحضره إلا مرات معدودة في طفولتي الأولى عندما كان يقيمه لأطفالهن بالرياض بعض صديقات أمي المنتميات إلى أرض الزبير والكويت. غير ان رؤية «البخانق والطواقي المقصبة بالزري» والحمص الملبس بالسكر الفيروزي والزهري من بهائج ذلك الاحتفال النسوي الرمضاني كما ان رؤية الفوانيس الملونة و«المنفوش» و«الكروبو» مما كان ينادي عليه الباعة في حواري مكة وجدة تثير في أعماقي شيئاً دفيناً من أشجان رمضان وشجوه، فتشتعل في صدري الأحد عشر غصناً من أخواتي وإخوتي على لمة تلك السفرة الرمضانية بمشمعها الأرضي وصحونها الحلال وضحكاتها المشتركة قبل أن ننسرب في طرق متباعدة واحداً بعد الآخر.
هل يحتاج الأمر بعد كل هذه المكاشفة أن أبرر لوعتي على الكيفية اللائقة التي كان يجيء بها رمضان وعلى الزهو الذي كان يستقبل به مقارنة بحالة الانحناء والرتابة التي نعيشها. هل من لا يقاسمني هذه اللوعة أو على الأقل هل من يساعدني والملتاعين مثلي على عقلنتها أو الاقتناع بالإقلاع عنها؟
أين ذهبت أجواء هذا الشهر الفضيل الشامخ بين الشهور الذي كانت رائحة مجيئه في طفولتي تنتشر في الأحياء والحواري على مسافة مئات الأميال عبر المدن التي كانت تعيش فيها أسرتي بين نجد والحجاز وأبعد. فمن شارع الشميسي بالرياض إلى حارة الشرقية وبرحة القزاز بالطائف ومن باب المجيدي في المدينة المنورة وأجياد في مكة المكرمة إلى الرويس وحي البغدادية والشرفية بجدة كانت ذرات الهواء رذاذ البحر ورمال النفوذ والربع الخالي والدهناء تتضوع برائحة مقدم الضيف.
لم أعد مع الأسف على مستوى شخصي على الأقل أجد رائحة رمضان بين جدران بيتي أو في سمواتنا وأرضنا من غير استرحام الذاكرة وتحمل مشقات المشي إلى الوراء أيّاً كانت عذوبة النبع الذي نريد العودة إليه أو الوقوف به للحظات مرة أخرى. فهل يعود ذلك لفقداننا حاسة الشم أو يعود لشدة تلوث البيئة بسموم السياسة واليورانيوم المنضب وعوادم السلام أو تراه يعود لتعميم الأمركة وسلوك الاستهلاك أم أن الأمر لا يعدو ندباً مبكراً للذات وتأسياً على ما كان؟.
لا أدري على وجه التحديد ولكن ما أعلمه بدقة أننا منذ مطلع القرن الواحد والعشرين ونحن نستعيد أزهى عصور التردي والانكسار التي كنا قد بدأنا بها مطلع القرن التاسع عشر.
فكما اختطف القصف الأمريكي لجثث أطفال أفغانستان رائحة رمضان العام ما قبل الماضي «أكتوبر نوفمبر 2001» كان قناصة جنود العدو الاسرائيلي في العام الذي قبله «قبل نهاية العام الأول للألفية الجديدة» قد اعتدوا على هلال شهر رمضان «نوفمبر ديسمبر 2000م» برش ريش طفولة محمد الدرة بالرصاص الحي في حضن أبيه وأمام كاميرات العالم.
ولم يكن ذلك إلا عينة ليس إلا على عداوتهم التاريخية الأيدلوجية للبراءة والطفولة واعتداءاتهم اليومية التي تزيد شراسة يوماً بيوم على الأطفال من سحق عظامهم الطرية تحت دبابات اجتياح القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية وحشر لحومهم بين أسياخ الجدار العازل إلى تغيبهم في معتقل عتصيون الاسرائيلي للأطفال على أرض فلسطين.
أما هذا العام فتعود رائحة رمضان الروحانية للاختطاف من الشوارع والبيوت والأرواح برائحة الدم والبارود وعلامات الرعب والهلع على محيا من لا يزالون شبه أحياء من الأطفال على أرض العراق الذين لم تجد أمريكا وسيلة أفضل لتحريرهم من احتلال أرضهم ومحو ما لم يمحه الحصار وأمراض السرطان من طفولتهم.
لقد قابلت صبيحة اليوم الأول من رمضان صحفية أمريكية تنتمي مهنياً الى إحدى الصحف الأمريكية الكبرى وكانت قد وصلت للتو من العراق وحين سألتها عن الوضع هناك قالت حتى بعد موافقة مجلس الأمن على مساعدة أمريكا فان الرائحة الوحيدة التي كنت أستطيع ان أشمها على أرض العراق كانت رائحة تفحم الجثث من الطرفين الأمريكي والعراقي ورائحة رشح الشك والرعب المتبادل.
فهل بعد المزيد من تفجر الوضع الأمني واحتدام المواجهة بين المحتل الأمريكي وبين شعب العراق وبين المحتل الاسرائيلي والشعب الفلسطيني وبعد ما لا بد ان يطال كل المنطقة من هشيم الاحتراق ما يمكن ان نعبر به عن لوعتنا في هذا الشهر الكريم غير استلهام معانيه واجتراحاته العظيمة على أقل تقدير لعدم القبول النهائي بما نعانيه من فشل الخيال. هذا والشهر مبارك.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved