Saturday 15th november,2003 11370العدد السبت 20 ,رمضان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مُصطلَح «الإِرهاب» (Terrorism) 2/2 مُصطلَح «الإِرهاب» (Terrorism) 2/2
الأفعى التي انقَلَبَتْ تَلْقِمُ أَهلَها
بقلم: الجوهرة آل جهجاه
جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة قسم البلاغة والنّقد ومنهج الأدب الإسلاميّ

قُوى النّفس الإنسانيّة
وإيقاع التّوهُّم أو التّخييل
كانَ منَ الجَلِيِّ تمامًا أنَّ تلكَ التّداعيات في تحليل وتوضيح أبعاد وتفاعُلات عمليّة التّخييل وإيقاع التّوهُّم مُرتَكِزةٌ على أدواتِ العقل وطُرُقِ استِجاباتِ وتفاعُلاتِ التّفكير مع ما يصِلُ إليهِ ويُعِيد تأمُّلَهُ، وتحليلَهُ، وتَركِيبَه، هي عمليّاتٌ إدراكيّةٌ مَقَرُّ إنتاجِها قُوى النّفس الإنسانيّة؛ حيثُ «يَفترِضُ فلاسفةُ الإسلام وبخاصة الفارابي... (260ه- 339ه) وابن سينا... (370 ه- 428ه) وُجودَ قُوَّتَينِ للنّفس: قُوّةٍ مُحرِّكَة، وأُخرى مُدرِكَة أي قُوّة حِسّيةٌ تشمَل الحواسّ الخَمْس، وقُوّةٌ باطِنةٌ مُجرَّدة؛ حيثُ تُدرِكُ القُوى الحِسّيّةُ الأشياءَ المادّيّةَ ظاهرةَ الكَينُونَةِ، مُحدَّدَةَ الشّكل، ومِن ثَمَّ تُدرِكُ القُوى الباطِنةُ صُور تلكَ المادّيّات، وتَحفظُها وتستحضِرها في الذّاكرة ولو لم تحضُر مادِّيًّا، مُشكِّلةً انفِعالاً داخِلِيًّا بها بالتّركيز على درجات القُوّة الباطِنة، يظهر أنَّ ابنَ سينا قد قسمها إلى خمسِ درجاتٍ مُميَّزَةٍ عن بعضها وِفْقًا لِمُتغيِّرِ الوظيفة الّتي تُؤدِّيها:
1- الحِسّ المُشتَرَك، و«.. هو» آلةُ الإدراك «الّتي تصل ما بين الحِسّ الظّاهر والباطن، ومن هُنا استمدّ اسمَه»
2-الخيال/ المُصوِّرة،«... ووظيفتها حفظُ ما يُقدِّمهُ إليها الحِسُّ المُشتَرَك، من الصُّور المُتأدّية إليه من الحواسّ الظّاهرة».
3- المُتخيِّلَة؟ المُفكِّرة، «وتتولّى هذهِ القُوّة استعادة صُور المحسوسات المُختَزَنة في الخيال أو المُصوِّرة، إلاَّ أنَّ وظيفتَها لا تقتصِر على الاستِعادة فحسب، وإنّما تتعدّى ذلك إلى وظيفةٍ ابتِكاريّةٍ مُتميِّزة، بمعنى أنَّ هذهِ القُوّة تأخذُ الصُّوَرَ المُختَزَنةَ في الخيال، وتُعِيدُ تَشكِيلَها في هَيئاتٍ جديدةٍ لم يُدرِكها الحِسُّ من قبل، لذا يُحدّدها الفارابيُّ على أساس أنّها «هيَ الّتي تَحفظُ رُسومَ المحسُوساتِ بعدَ غَيبَتِها عنِ الحِسّ، وتُركّب بعضها إلى بعض، وتفصِل بعضَها عن بعض، في اليَقظة والنّوم، تركِيباتٍ وتفصيلاتٍ بعضها صادِقٌ وبعضها كاذِب»... ولا يَبعُد ابن سينا عن هذا التّعرِيف، فمن شأن هذهِ القُوّة عنده أن تُركّبَ بعض ما في الخيال مع بعض وتفصِل بعضَهُ عن بعض بحسب الإرادة «....» أي إنّ عمليّة تركيب المحفوظات وتفسيرها يتمّ بطريقة قصديّة مُتعمَّدَة كما هو شأْن أمريكا في تركيب صورة الإسلام عن طريق انتِقاء أشياء، واستِبعاد أُخرى، وتقديم وتأخير، وتضخيم وتقليص ما تشاؤُه.
4- القُوّة الوَهميّة، «... وهي تُدرك منَ الصُّور المُؤلَّفَة في القُوّة المُتخيَّلَة مجموعةَ المعاني الجُزئيّة، مثلما تُدرِكُ الشّاةُ من صورةِ الذّئب معنى العَداوة والغدر، فتهرب منه ولا تتعرّض له.... وهذا تعريفٌ قريبٌ من تعريفِ ابنِ سينا الّذي يُحدِّدُ هذه القُوّة على أساس أنّها تُدرِكُ المعاني الجُزئيّة غيرَ المحسوسة في المحسوسات الجُزئيّة... وكمثالٍ لإدراكِ المعاني الجُزئيّة الغائبة في المحسُوسات الجُزئيّة الحاضِرة، يُمكِنُ تأمُّل وصف «الإرهابيّ» كوصفٍ كثَّفهُ الأمريكيُّون وَصْفًا لِجُزءٍ محسُوسٍ مارِقٍ من «المسلمين»، و«المسلمون» جزءٌ من «العرب»، و«العرب» جُزءٌ من «الشّرقيّين»، و«الشّرقيُّون» جزءٌ من البشر على سطح الأرض بجِهاتِها الأربع الأصليّة وتفرُّعاتِها. بعدها انتَقَتِ المعاني الجُزئيّة وصفَ «الإرهابِيّ» وعمَّمَتْهُ على «المسلمين» (ولرُبّما الشَّرقِيِّين أيضًا)، و ضخَّمَتْ وَوسَّعَتْ خطرَ رُكنِ الجهاد الإسلاميّ الشّريف، وأدخلتْ فيه ما لا ينتمي إليه من أفعالِ تَقتِيلٍ لا تفسيرَ لها ضِمنَ دائرةِ الجِهاد الصّحيح المَفرُوض، فادَّعَتْ لهُ ما ليسَ من نوعِهِ ولا جِنسِه، مُتغافِلَةً، أو مُتجاهِلَةً، أو مُقصِيَةً أنَّ الجِهادَ الإسلاميَّ مراحِلُ.. آخِرُها إراقَةُ الدّم عندما تَعْيَى المُفاوَضاتُ السِّلْمِيَّةُ، والحِوارُ، والجدل وِفْقَ شُروطٍ إلهيّةٍ عادِلةٍ للطّرفَين، فيما الجرائمُ الّتي أثارتْ قضيَّةَ «الإرهاب» جرائمٌ بدايتها إراقةُ الدّم البريء، ممّا لا يأمُرُ به الإسلامُ ولا غيرهُ من الأديانِ الإلهيّة الّتي لم تُحرَّف في هذا الأمر.
5-الحافِظة الذّاكِرة، وهي «... تَحفَظُ ما تُدرِكُهُ القُوّةُ الوهميّةُ من المعاني الجُزئيّة غير المحسوسة، وهي بذلك تقومُ بنفْسِ الدّورِ الّذي تقومُ بهِ» المُصوِّرَة أو الخيال «لِلحِسِّ المُشتَرَك، أعنِي أنَّهُما مُجرّد «خِزانَتَين» لِلْحِفظِ فحسْب،.
هذهِ هيَ القُوى الباطِنة الخمس، وهي مُتدرِّجةٌ، مُتآلِفَةٌ، لكنْ لا بُدَّ أنَّ هُناكَ مَن يَحكُمُها جمِيعًا ويفرِضُ عليها الطّرِيْقَ التَّصوِيرِيَّ الذِّهنِيَّ والانفِعالِيَّ الحَرَكِيَّ الّذي تتبنّاهُ لاحِقًا؛ فَ«...إذا كانت «القُوّة المُتخيَّلَة» أو «المُخيِّلَة» تتميَّزُ عن غيرِها بالقُدرة على الجمع والتّألِيف فإنَّ «الوهمَ» أو «القُوّة الوهميّة» يتميَّزُ بالسّيطرة والتّحكُّم فيما عداه، ممّا يجعل ابنَ سينا يصفهُ بأنّهُ «الحاكِم الأكبَر» الّذي يَظهَر حكمُهُ في هيئةِ انبِعاثٍ تَخيُّلِيّ من غيرِ أنْ يكُونَ ذلكَ مُحقَّقًا، وهذا مثل ما يعرِض للإنسان من اسْتِقذارِ العَسلِ لِمُشابَهَةِ المُرار، فإنَّ الوهمَ يحكم بأنّه في حُكمِ ذلك، وتتبع النّفس ذلك الوهم، وإنْ كان العقلُ يُكذِّبُه... ومعنى ذلك أنَّ الحُكم الّذي يُصدِرُهُ الوهمُ ليسَ حُكمًا فَصْلاً كالحُكْم العقلِيّ، وإنّما هُوَ «حُكْمٌ تَخيُّلِيٌّ»لا يَتِمُّ دون القُوّة المُتخيَّلَة ولا يُفارِقُ ما هو حِسِّيٌّ وجُزئيّ،.... ويتجلّى ذلك في أنَّ «القُوّة المُحرِّكَة»لا تتحرّكُ إلاّ عند إشارةٍ حازِمةٍ من القُوّةِ الوهميّة باستِخدامِ المُتخيِّلَة.
وعلى ذلك يُصبِحُ الوهم هوَ الباعِث على الأفعال والحركات، ومركَز الإرادة، ومصدر الأوامِر والأحكام لِمُعظمِ أفعال الإنسان..
بما أنَّ القُوّةَ الوهميّة، قُوّة التّخيُّل والتّوهُّم هي الحاكِمَة، فإنَّ سُكونِيّةَ مضامِيْنِ خَيالاتِها أو توهُّماتِها في الذّهن، وتكرُّرَها، وتراكُمَها يتسبَّبُ في خطرٍ على مصيرِ الشّخص الّذي ينحبِسُ في فَلَكِها، «وتتزايَد درجاتُ الخطر على الإنسان، في أمثال هذه الحالات، وتصِلُ إلى الحدّ الّذي يفسُدُ فيهِ مِزاجُهُ كُلّيّةً» وتَفسُدُ تَخايِيْلُهُ فيرى أشياء ممّا تُركِّبُهُ القُوّةُ المُتخيِّلَة على تلكَ الوُجوه ممّا ليس لها وُجود، ولا هيَ مُحاكاةٌ لِوُجود، وهؤلاء هُمُ المَمْرُورُون والمَجانِين وأشباهُهم... وفي مثل هذهِ الحالات «يرى الإنسانُ المجنونُ والخائفُ والضّعِيف... أشباحًا قائمةً، كما يراها في حالِ السّلامةِ بالحقيقة ويسمعُ أصواتًا كذلك، فإذا تَدارَكَ التّمييزُ أو العقلُ شيئًا من ذلك، وجذبَ القُوّةَ المُتخيَّلَةَ إلى نفسِه بالتّنبِيه، اضمحلَّتْ تلكَ الصُّور والخيالات.... وهكذا تظلُّ القُوّةُ المُتخيَّلَةُ قابِلةً للانحِرافِ على النّحْوِ الّذي ينحرِفُ معهُ سلوكُ الإنسان، طالما تباعَدَ العقْلُ عنها، وصادفتْ مِزاجًا فاسِدًا وفِكْرًا مُشَوَّشًا، لا يَضبِطُهُ العقلُ أو يَحكُمُ مَسارَه..
هذا التّكرِير، وهذا العَيشُ في دائِرةٍ مُغلَقَةٍ مع أشباحٍ كوَّنها ذِهنُ الإنسانِ بنفسه، وفرضَها قُوَّةً مُذهِبةً لِصفاءِ ومنطِقيّةِ عقلِهِ، تتّضِحُ طبيعتُه أكثر عند قراءةِ ما توصَّلَ إليهِ مِيشِيل فُوكُو (Michel Foucalt) (1926-1984م) من «... أنَّ الطّابع الأساسيّ لعلاقات القُوّة كونها في الأساس حَرَكِيّة، وهي لا تتّحدُ بالأسماء والتّرميزات إلاّ عندما تَثبُتُ في أمكِنةٍ وأزمِنةٍ مُعيَّنة، فتُصبِحُ تلكَ أمكِنةً وأزمِنةً لها، وتأخذُ صفةَ المَرجِعيّة»، مثلما زرعتْ أمريكا المسلِمينَ في ذِهنِها تخيُّلاً وتوهُّمًا مُحوِّلةً إيّاهُم إلى مرجِعيّةٍ تُحدِّدُ من خِلالها أهدافَها الّتي تدّعي الكَونِيّة، وسياسةَ تسلُّطِها على العالم، وتَفسِيرَها، وتَعلِيلَها، وتَأوِيلَها، وتَقوِيْمَها لأيِّ قَرارٍ، أو غَزْوٍ، أو فَتْكٍ، أو مُقاطَعةٍ، أو أوصافٍ تتّخِذُها، وتُعلِنُها، وتتبنّاها. الأمرَ الّذي أصابَ الأمريكيّين، بِهِستِريا تَوهُّمِ خطَرِ المُسلِمينَ، وتَخيِيلِ إهلاكٍ مادِّيّ لهُم، أو استِهلاكٍ معنوِيّ لأفكارِهم، وعُلمائهم، وقُواهُم النّفسِيّة بحصرِهم في دائرةٍ واحِدة، لا يَرونَ فيها من أنفُسِهِم، ولا يتوهَّمُونَ إلاّ أنّهم أعداءُ أمريكا- داعيةِ السّلام !
بما أنَّ أفعالَ أمريكا على ما أنتجتْهُ من خطرٍ وإِرهابٍ انسلَّ من توهُّماتِ أذهانِ بعض مُتعصِّبِي عُلمائها، فاتّخذتْ بناءً عليهِ سياساتٍ لا رَشَدَ فيها ولا عقْل، فإنَّ الخَوفَ يأتي من الجِهة الثّانية؛ حيث خطر التّوهُّم مُزدَوَجٌ يعمل في الطّرفينِ معًا؛ فكثيرٌ من المُسلِمين مع كثرةِ التّكتِيل الأمريكيّ لهم بوصفهم إرهابيّين باتُوا يتخيَّلُونَ أمريكا تُقاضِيهم في كُلِّ شيء، تَنتقِدُهُم، تُسَمِّي أفعالَهُم، وتَصِفُ مواقِفَهُم، وكردّةِ فِعلٍ طبيعيّةٍ للمُسلِمين (مُخطَّطَةٍ ومَسْعِيٍ إليها من جانبِ الأمريكيّين) ركّزَ المسلمون معظمَ طاقاتِهِم في نقدِها، في مُقاضاتِها، في مُحاورتِها حِوارًا من طرفٍ واحد، أمريكا فيهِ مُتَفرِّجٌ على تفاعُلاتِ البِذرةِ الخبِيثَةِ الّتي رمتْها في أوساطِ أذهانِ المسلمين وتخيُّلاتِهِم، ومأساةُ ذلك أنَّ التّعلُّقَ بِمِحورٍ واحِدٍ فِكرِيّ يُؤدِّي للُعزلَة، والاحتكاكِ في نواةِ الذّات، والتّصدُّع، والانتِثار، والاندِثار ممّا يُخافُ على المُسلِمينَ منه؛ حيثُ يبقونَ في دائرةِ الاتّهاماتِ الأمريكيّة دِفاعًا واتّهامًا، دونَ أن يتوسّعُوا لاستِجلاءِ وإغناءِ طُروحاتٍ فِكريّةٍ أُخرى، في موضُوعاتٍ أُخرى؛ فَعِمادُ الأُمّةِ باحِثُوها، مُفكِّرُوها، عُلماؤُها.. فلو كانت الشّمسُ مُسلَّطةً بإشعاعاتِها على مِحورٍ واحدٍ من الأرض لاشْتَوى بِناسِهِ وهَلك، ولَبطُلَتْ وظِيفتُها الكَونِيّةُ المُتجدِّدَةُ والحيَّةُ الّتي تمنحُها الحياةَ في هذا الكَوكب، وأصبحت أداةَ إهلاك، لرُبَّما فجَّرَتِ الأرضَ وشَطرتْها؛ فالشَّمْسُ ذِهنُ المسلمين، والأرضُ ومِجرّاتُ الفَلَك محاورُ الفِكر، ودُولُهُ، وأقطارُه. والتّركيزُ على وظيفةٍ واحدةٍ للشّيءِ الواحِد مُتعدِّدِ الوظائِف.. قتْلٌ لهُ وتَعطِيل؛ لأنَّ طبيعةَ الحياةِ والخَلْق هيَ الحركةُ وليسَ السُّكون؛ التّنوُّع وليس الّلاتَنوُّع والأُحادِيَّة كما يُحاوِلُ الأمريكيُّون تصوِيرَ المُسلِمِ وإيهامَهُ بِأنَّهُ ساكِنٌ في أوصافٍ وأهدافٍ ثابتةٍ أُحاديّة؛ أي هو ميِّتٌ في رُوحِهِ وعقْلِه، كما هُوَ الحالُ في أُطروحتِهِم السّياسيّة الجَوهريّة .
إنَّ الأجسامَ تتعفَّنُ في الماءِ إنْ لم تتحرَّك، والأجرامَ تتحلَّلُ في السّماءِ بإحراقِها ذاتَها إذا لم تنفُذ بطاقاتِها في أقطارِ السّماء كما الحالُ مع الشّمس؛ فهي تسبحُ في الفَلَكِ دُونَ ثبات؛ لِكي يتجدَّدَ حالُها، وتتجدَّدَ علاقاتُها بالأشياء الأُخرى من حولِها، والّتي تنعكِسُ عليها وتعكِسُها: {لا الشَّمًسٍ يّنًبّغٌي لّهّا أّن تٍدًرٌكّ القّمّرّ ولا اللَّيًلٍ سّابٌقٍ النَّهّارٌ وكٍلَِ فٌي فّلّكُ يّسًبّحٍونّ} فَ«الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ والنُّجُوْمُ فِيْ فَلَكٍ بين السّماء والأرض، غير مُلصقَةٍ بشيءٍ ولو كانت مُلصقَةً ما جَرتْ... وهذا ما تُحاوِلُهُ أمريكا بإلصاقِ المُسلِمينَ فيها؛ لتجميد حركتِهِم في إطارِها هيَ، رغمَ أنَّها مِن طرفٍ خَفِيّ تُعدِمُ حركتَها وتُجمِّدُها: فِكْرًا ومادّةً في الوقتِ نفسِه، لكن يختلِفُ مدى تأثِيرِ ذلك وِفْقَ حجمِ الكُتلَتَين المُلتَصِقَتَين وإمكاناتِها.
قال «... الشّهيد سيّد قُطب... (1906 -1966م) في تفسِيرِهِ الظِّلال: «والشّمس تدورُ حول نفسِها وكان المَظنُونُ أنّها ثابِتةٌ في موضِعِها الّذي تدورُ فيه، ولكن عُرِفَ أخيرًا أنّها ليستْ مُستقرّةً في مكانِها إنّما هيَ تجرِي فِعْلاً في اتّجاهٍ واحِدٍ في الفَضاء الكَونِيِّ الهائِل بِسُرعةٍ حسبها الفلكِيُّونَ باثنَي عشر مِيْلاً في الثّانية، والله ربّها الخبير بها وبجريانِها وبمصيرِها يقول إنّها { تّجًرٌي لٌمٍسًتّقّرَُ لَّهّا} هذا المُستَقَرّ الّذي تنتهِي إليهِ لا يعلمُهُ إلاّ هو سبحانهُ وتعالى.. وحينَ تصوُّرِ أنّ حجمَ هذه الشّمس يبلغ نحو مليون ضِعف لحجم أرضنا هذه، وأنّ هذه الكُتلة الهائلة تتحرّكُ وتجري في الفضاء لا يَسنُدُها شيءٌ، نُدرِكُ طرفًا من صفةِ القُدرة الّتي تُصرِّفُ هذا الوجودَ عن قُوّةٍ وعن عِلم،...
فلو كانت الشّمسُ بطبيعتِها الّتي تتلظّى، وتُنتِجُ لهبًا يكادُ يتميَّزُ عنها ويتقطَّعُ كُراتٍ من نارٍ لا تَجِدُ كوكبًا آخر، كالأرض ذِي طبيعةٍ بارِدةٍ يمتصُّ حرارَتَها نهارًا، ويُنفِّسُها بُخارًا ونباتًا برحمةِ الله، لَتَفجَّرَت في ذاتِها لو كانتْ محبُوسةً لا تتفاعَلُ إلاّ معَ نفسها وفيها، رغم صغر حجمِ الأرض مُقابِلَ الشَّمْس إلاّ أنَّها تُنوِّع برحمةِ الله وتقديره استِخدامَها لوظائفِ هذه الحرارة من تدفِئة، من تطهيرٍ وقَتْلٍ للجراثيم الّتي تقتل النّبات والحرث، من إنضاجٍ للزّرع والبِناء، من تَبْخِيرٍ لِلمِياهِ الّتي تَعُودُ مطرًا يغسِلُ جفافَ الأرضِ في مكانٍ آخر غيرَ الّذي تبخَّرتْ منه بِفِعْلِ تحرِيكِ الرِّياحِ لها...إلخ.
وبهذا الشّكل، يُمكِنُ تشبيه ما يحدث باعتِبار أمريكا الشّمس والمُسلِمين الأرض، فلو قابلوها نارًا لَهَلكَتا معًا في أسرعِ وقت، ولو لم يمتصُّوا شُحناتِها، ويُعِيدُوا إنتاجَها أشكالاً أُخرى، تَصوُّراتٍ وتفاعُلاتٍ أُخرىً ليست من جِنسِها، لَهلكُوا ولَهَلكتْ هيَ أيضًا، ففي رُدودِ فِعلِ المسلمين باختِلافها حيواتٌ لأمريكا، وطبعًا المُرادُ تحكِيمُ رُدودِ الفِعل هذه، وإعادة الإنتاج بعد دراستِها في سياسة تفاعُلاتها على مدىً بعيدٍ كما درس الأمريكيُّون أبعادَ تفاعُلاتِ المسلمين بمصطلح «الإرهاب» وغيرِه ممّا قِيلَ أو لمْ يُقَل للآن.
ولعلَّ المُلاحَظَ هو إشغالهم المسلمين بالمُصطلحات الّتي يُطارِدونها في حُدودِ حجمها الاصطلاحِيّ، حيث باتت أمريكا بقادتها مسؤولة عن تفريخِ مُصطلحاتٍ شواردَ تتضارَبُ عليها المؤتمراتُ والجلساتُ الدُّوليّة الطّارئة، كالإرهاب، وخارطة الطّريق، الأمر الّذي يصرِفُهُم عن الجيشِ الجَرّارِ منَ الدّعاوَى الفِكرِيَّةِ الّتي تدخُلُ بزعامةِ هذا المُصطلَح من حيثُ لا يُطارِدونَ ولا يُحلِّلُون.
مثالٌ آخر لِتعمِيقِ فكرة خطرِ التّكتِيْلِ والحَبْسِ في دائرةٍ واحدة؛ خلقَ سُبحانَهُ وتعالى العقلَ للتّدبُّرِ والتّأمُّل؛ أي للتّفكِير عامّةً في كذا، وكذا، وكذا، ممّا لا يُحصى، وبأشكالٍ مُتعدِّدةٍ للتّفكير وطاقاتِهِ ومَناحِيه؛ فليس نظرًا بصريًّا أبله لا يتجاوزُ تسجِيلَ المَرئيّات، وليس مُلاحظةً مُجرَّدةً من الارتِباط بالواقع، وليس مُلاحظةً بلا استِنتاج، وليسَ استِنتاجًا بلا وُصولٍ لِتجلِّياتٍ أعمق لِوِحدانيّةِ الله. ولو حُصِرَ التّفكِير في شيءٍ واحد، وبشكلٍ واحد، ولِحُدودٍ واحدة، ولِغايةٍ واحدة، لَمَلَّ، وتَعطَّلَ، وخابَ مسعاه، من هذا الأمر، تتكشَّفُ حكمةُ انقِسامِ النّاسِ لِمُؤمِنٍ يُفكِّرُ ويتعمَّق فيما يُثبِتُ وِحدانِيّةَ اللهِ وبُطلانَ عقيدةِ الطّاغوت، ولِكافرٍ أو مُجادِلٍ يُفكِّرُ ويتعمَّقُ فيما يُثبِتُ وِحدانيّةَ الطّاغُوتِ وبُطلانَ وِحدانيّةِ اللهِ جَلَّ جلالُه؛ فهذا الاختلاف في الغايات الكُبرى مَقْصِدٌ لإبقاءِ جذوَةِ الفِكرِ مُشْتَعِلَةً ومُتجاذِبَة.
وفِيما يتعلَّقُ بالتّفكِير، فقد عدّدَ اللهُ مناحِيَهُ (موضُوعاتِه) أحيانًا بأداةٍ واحدةٍ هي النّظر: {أّفّلا يّنظٍرٍونّ إلّى الإبٌلٌ كّيًفّ خٍلٌقّتً وإلّى السَّمّاءٌ كّيًفّ رٍفٌعّتً وإلّى الجٌبّالٌ كّيًفّ نٍصٌبّتً وإلّى الأّرًضٌ كّيًفّ سٍطٌحّتً} ؛ ووحَّدَ الموضوعَ «القُرآن» مُقابِلَ تعدُّدِ الأدوات: النّظر، القراءة، الاسترجاع، المُلاحظة، الاستنتاج: {أّفّلا يّتّدّبَّرٍونّ القٍرًآنّ أّمً عّلّى" قٍلٍوبُ أّقًفّالٍهّا} ؛ ونوَّع الأداة السّماع والقَول الموصُوف باللِّيْن «فيما نوَّعَ النّتيجة ما بين نشاطِ الذّاكرةِ الإيجابيّة وخشيةِ القلب: {اذًهّبّا إلّى" فٌرًعّوًنّ إنَّهٍ طّغّى" فّقٍولا لّهٍ قّوًلاْ لَّيٌَنْا لَّعّلَّهٍ يّتّذّكَّرٍ أّوً يّخًشّى"} ؛ ووحَّدَ الموضوع «شِفاء العسل للنّاس» وكذلك وحّد الأداة، وهي التّصوُّر لمعرفة كيفيّة عمل العسل وإحداث الشِّفاء بإذن الله، ولا يفعلُ ذلك إلاّ شريحةٌ من النّاس، يتعمّقون، يربطون الأسباب بالمُسبَّبات وبِطُرُق إزالتها أو إحداثِها من جديد بشكلٍ آخر، وهم الأطبّاء وأهل العِلم والتّفكير: {يّخًرٍجٍ مٌن بٍطٍونٌهّا شّرّابِ مٍَخًتّلٌفِ أّّلًوّانٍهٍ فٌيهٌ شٌفّاءِ لٌَلنَّاسٌ إنَّ فٌي ذّلٌكّ لآيّةْ لٌَقّوًمُ يّتّفّكَّرٍٍونّ} ؛ وأخيرًا وحّدَ الأداةَ «السّؤال المُتكرِّر» والهدفَ وهو تجلية عظمَة الله سبحانه وتعالى في الإماتَةِ والإحياء، ونَصْرِ أولِيائِهِ ولو بعدَ حِين:{وكّذّلٌكّ بّعّثًنّاهٍمً لٌيّتّسّاءّلٍوا بّيًنّهٍمً قّالّ قّائٌلِ مٌَنًهٍمً كّمً لّبٌثًتٍمً قّالٍوا لّبٌثًنّا يّوًمْا أّوً بّعًضّ يّوًمُ قّالٍوا رّبٍَكٍمً أّعًلّمٍ بٌمّا لّبٌثًتٍمً}.
كثرة تخيُّل الآخر: ما لها وما عليها
وإذا كانت كثرةُ تَوهُّمِ وتَخيُّلِ الآخر في ذاتِهِ أو ذاتِ تَخيِيلاتِهِ الّتي أوقعها في توهُّمِ غيرِه قد تَخطِفُ منَ الإنسانِ قُدرَتَهُ على الفصْلِ بينَ أوهامِهِ الذِّهنيّة وبين مُشاهداتِهِ العَينِيّة الحقيقيّة كما يحدُثُ في أمرِ الشّياطِين وتزوِيلِها للإنسان مَشاهِدَ لم يَأْلَفْها، فمع تكرُّرِ ظُهورها لهُ بأشكالٍ مُرعِبةٍ مُختلِفة، ومع تكرُّرِ تفكيرِهِ فيها، وتَخيُّلِها واستِرجاعِ إيقاعِها في توهُّمِهِ مُكَتِّلاً إيّاها في تَخيُّلِه، فإنَّها تَرْتَئِي لهُ دُونَ حُضُورِها؛ إذ يُوقِعُ ذِهنُهُ ذبذباتٍ وإشعاعاتٍ تَنقُلُ الصُّورةَ من ذهنِهِ إلى حيِّزِ رُؤيةِ عَيْنَيْهِ وإحساسِ بَدَنِهِ وقَلْبِه، أو تَجذِبُهُ لِتمتصَّهُ وتُدخِلَهُ داخِلَ ذِهنِهِ مَحبُوسًا أمامَ هذهِ الصُّور المخزونةِ بتركِيزِ حواسِّهِ وتَخايِيْلِهِ جميعِها في هذا الحدَثِ منَ الذّاكِرة.
إنَّ كثرةَ التّفكير في الآخر سَلبِيًّا أو في سلبيّاتِه تُنسِي وتَطمِسُ الالتفاتَ لِقُصُورِ الذّات وأخطائها، بل يحدث مع ذلك الإسقاط؛ إذ يُسقِطُ الشّخصُ سلبيّاته على تصوُّرِه أو تَوهُّمِهِ للآخر؛ ليكونَ حقيقةً ماثِلَةً فيه، فيما يتوهَّمُ ذاتَهُ خاليةً من تلك السّلبيّات؛ فلو تصوَّرَ القارئُ صُندوقًا ذَا مُربَّعاتٍ بيضاء يُمثِّلُ تخيُّلَ الذّات لِذاتِها، وصُندُوقًا آخر ذَا مُربّعاتٍ بيضاء يُمثِّلُ تَخيُّلَ الذّاتِ للآخر، فإنَّ الذّاتَ قد تلمَحُ نِقاطًا حمراء فيها قد اتّهمها بها الآخر؛ أي أوقعَها في توهُّمِها، فصبغها من البياضِ لِلحُمرة، فإنَّ الذَّاتَ تقومُ بِنَقْلِ النِّقاطِ الحمراء لِمُربَّعِ الآخر في توَهُّمِها، وذلك بِنَفْيِها لها، لِيبقَى مكانُها خاليًا؛ لأنَّ الّذي فِيهِ هوَ نَفْيٌ بلا إثبات، وبالتّالي تَسْتَمْرِئُ النَّفْيَ، والتّركِيْزَ على صَبْغِ مُربَّعاتِ الآخر بالحُمرةِ الّتي هيَ سِلبيّاتٌ قد تشترِكُ فيها معه، وقد تنفرِدُ بها، أو ينفرد بها، لكنّها تُركِّزُ على لَفْتِ الانتِباهِ لِحَجْمِ/ مِقدارِ الحُمرة عندَه، تنتقِدُ ذلك، تُكرِّرُ ذلك، إثباتًا عليه، ونَفْيًا لهُ عندها. وبما أنَّ بقاءَ مُربَّعاتِها مُحتلَّةً للنّفي دون إثباتِ شيء، فالسِّلبيّاتُ موجُودةٌ لكن بلا لونٍ أحمر؛ لأنّ الذّاتَ استبعدتِ اللّونَ الأحمرَ عن دائرتِها، وهذهِ طريقةُ تصوُّرٍ/ تَوهُّمٍ طبيعيّةٍ في البِنيةِ الذِّهنيّةِ للإنسان، أمّا إيجابيًّا، فتطمس الالتفاتَ لِقُصُورِ الذّات عن تَجاوُزِ هذا المِثالِ المَعبُودِ المُقلَّد، وتحبِسُ ذاتَها في حُدودِ إطارِه.
إذن، تَكرارُ المَوصُوفِ للصِّفة على سبيلِ النّفي هو وسيلةُ إثباتٍ من حيثُ لا يدري، وذلك في رُؤيةِ واستراتيجيّةِ الواصِف؛ لأنَّهُ اعترفَ بها؛ لأنَّ الوصفَ محدودٌ بأوصافِ الموصوفِ الجوهريّة وليس الهامشيّة وإن كان مُؤَوَّلاً على غير وجهِهِ كنِسبتِهِم أعمالَ الإجرامِ بتَقتِيْلِ الأنفُسِ البريئةِ إلى رُكْنِ الجِهادِ الإسلاميّ تَنزَّهَ عن هذا الإسفاف، وتضخيمِ الخوفِ منه كمُؤسّسةٍ «إرهابيّة»، فعندما يَرقَى الوصفُ الهامِشيُّ/ الجُزئيُّ لمرتَبَةِ الجَوهَرِيِّ بكثرةِ تَردادِ الوَاصِفِ لهُ، وبِكثرَةِ اهتِمامِ الموصُوفِ بهِ ورَدِّهِ ونَفْيِهِ (دُونَ التّدقِيقِ في جُزئِيَّاتِهِ المُتناقِضَة) من حيثُ لم يَعُد يَسْتَشْعِرُ نفسَهُ إلاَّ مِنْ هذهِ الزّاوية الوَصفِيّة، يُصبِحُ هذا الخَللُ تأكيدًا، فلو لم يكُن فيهِ جُزءٌ من الحقيقةِ لَما اهتمَّ بهِ هكذا، ولَقالَ لهُم: هُمْ يَصِفُونَ ويُهاجِمُونَ «إرهابيًّا»، وليسَ «مُسلِمًا»، لأنَّ مفهُومَ مُصطلَحِ «إرهابِيّ» عندَ مُطَوِّرِي المُصطلح الأمريكيّين وأتباعهم يعنِي: مُسلِمًا (ولو مُجرَّد الانتِماء العامّ؛ بحيثُ لا يُطبِّقُ الإسلام قولاً وعملا) مُلتَزِمًا بإجرامِ الجِهادِ العَشوائيِّ، يَقتُلُ الأمريكيّ، ويُهدِّدُهُ، أو يُفكِّرُ في تَهدِيدِه.
معرفة الذّات الحقيقيّة حماية
من تمويهِ إيقاعاتِ التّوهُّم
نتيجةً، «إرهابيّ» في القاموس الأمريكيّ تُساوِي «مُسلِم» (إرهابيّ= مُسلم)، (الإرهاب= الإسلام)، فيما «إرهابي» في قاموسِ الشّريعةِ الإسلاميّة الحَقّ في ضوءِ الأحداث الحاليّة تُساوِي «مُجرِم» (إرهابيّ= مُجرم)، (الإرهاب= الإجرام)، (الإرهاب= غير الإسلام)؛ وعندما يَنفِي مُدافِعُو المسلمين صفةَ «إرهابيّ»، فإنّها لا تنتفِي؛ لأنّ أصل الإرهاب عند الأمريكيّين والغربيّين جميعهم هو الإسلام، فإذا قال المسلم: أنا غيرُ إِرهابِيّ (وستصِلُ ترجمةُ ذلكَ لأذهانِ الأمريكيِّين على أنَّهُ قال: «أنا غيرُ مُسلِم»)، فهوَ بالنِّسبة لهم يُثبِتُ ولا يَنفِيْ؛ لأنّهُ مُسلِمٌ رغمًا عنه، يَدِيْنُ بشعائِرِ الإسلام.
من هُنا تبرزُ إشكاليّةُ مَخزُونِ مفهُومِ المُصطلح الغائب، فالأَولَى تصحيحُ وتخصيصُ المُصطلحات في الخِطابِ الإسلاميّ الدِّفاعِيّ قبلَ أيِّ شيء؛ حذرًا من هذا الازدِواج والتّناقُض النّاتِج لا عَنْ خللٍ في خطاب المُسلِمين وفِكرهِم، وإنّما في خَلَلٍ مقصُودٍ في خطاب الأمريكيّين والغربيَّين حيثُ التّناقض أداةٌ من أدواتِ خطابهم؛ فَمَنْ يبنِي قصرًا مُتقَنَ البِنيان بِلَبِنٍ مغشُوشٍ سريعِ العَطب، فيسقطُ القصر وينهار. . ليس الانهِيارُ لأنَّ الخلل في البِناءِ وأُسلوبه، إنّما هوَ في المادّة الّتي بنى بها ولمْ يتنبَّه لِعُيُوبِها. بالتّالي، تتحدَّدُ المصطلحات وِفْقَ سلامةِ الوعي الإسلاميّ: الإرهاب يعنِي كذا وكذا في الإسلام، الجهاد يعني كذا وكذا في الإسلام، الإجرام يعنِي كذا وكذا في الإسلام، والإجرام هو عَدِيْلُ وبَدِيْلُ «الإرهاب» في القاموسِ الشّرعيّ: {كّذّلٌكّ العّذّابٍ ولّعّذّابٍ الآخٌرّةٌ أّكًبّرٍ لّوً كّانٍوا يّعًلّمٍونّ إنَّ لٌلًمٍتَّقٌينّ عٌندّ رّبٌَهٌمً جّنَّاتٌ النَّعٌيمٌ أّفّنّجًعّلٍ المٍسًلٌمٌينّ كّالًمٍجًرٌمٌينّ مّا لّكٍمً كّيًفّ تّحًكٍمٍونّ }
مثلُ ذلكَ تَسمِيتُهُم الشَّريعةَ الإسلاميّةَ أو الدِّينَ الإسلاميَّ بالمُحمَّدِيَّة Mohammedanism))؛ لأنّهُم يَقصِدُونَ بمفهومها أنَّ الدِّينَ والقُرآنَ من تألِيفهِ عليه الصّلاةُ والسّلام؛ فالصُّورة الّتي لديهم هي أنّه (... بعدَ موتِ محمّد بقليل، سُجِّلَتْ تعالِيْمُهُ في كتابٍ يُدعى القُرآن، وصارَ الكتابَ المُقدَّسَ للإسلام..) كذلكَ عندما يُهاجمونَ بأنَّ «المؤسّسات الدّينيّة الإسلاميّة» يجب تَطوِيقها أو إلغاؤُها؛ فالحذَرَ الحذَرَ من دِفاعِ المسلمينَ بالقول: مُؤسّساتنا الدّينيّة ليست مسئولةً عن الشّباب المُنحرِفين الإرهابيّين. . إلخ من كلامٍ كَثُرَ سماعُهُ في الخِطاباتِ الإعلاميّة؛ وسببُ التّحذير هُوَ أنّ مفهوم «المؤسّسات الدّينيّة» يتضمّنُ أنَّ المؤسّسة ذاتَ صُنعٍ وتشريعٍ إنسانيّ، بشرِيّ، وليس هذا حقيقةَ الجهات الّتي تُعنى بخدمة الإسلام؛ لأنّ الإسلام في ذاته ربّانِيٌّ من عند الله الواحدِ الأحد، لم يَخْتلِقْهُ فَرْدٌ منَ البَشر، والمُؤسّساتُ هذهِ تُعنى بالدِّين، تخدِمُ الدِّين، وليست مؤسّساتٍ دينيّةً (صفةٌ وموصُوف) كالمُؤسّساتِ الزّراعيّة تُنتِجُ ما يشاءُ أصحابُها من نباتاتٍ مُهجَّنَةٍ أو مُعدَّلَةٍ وِراثِيًّا، وبالتالي، لِكُلِّ مُؤسّسةٍ دينٌ وتَشرِيْع، وبالتّالي فالجميعُ مُتواطِئونَ على تَنشِئةِ هذا «الإرهاب» !
مُراعاةً لتجنُّبِ خطرِ الوُقُوعِ في ذلكَ غِرَّة، ينبغِي ابتِكارُ مُصطلحاتٍ حسبَ وَعْيِ المُسلِمين الخاصّ بالقضايا والمفاهيم الّتي يرمز لها المصطلح، وتكون مُستمدَّةً بالدّرجةِ الأولى من القُرآن الكريم، ومن بعدهِ السّنّة النّبويّة المُطهَّرة، ومن بعدها ما تعارَفَ عليهِ علماءُ المسلمين واتّفقوا على مفهومه، أو سعوا إلى الاتّفاق على مفهومه حاليًّا أو قبلَ قُرون؛ وذلكَ حذرًا من الوُقُوعِ في تمثِيلِ دورٍ يُثِيرُ السُّخريةَ في نظرِ الآخر الّذي نُمثِّلُ مُصطلحاته، ونُقاتِلُها ونحنُ لا نَعِي مَفاهِيمَها وجوهَرَها على أدقِّه، ولا نَعِي أنَّها ليست لُغتَنا الّتي نُدافِعُ بها، ولا الّتي تُناسِبُ بَهاءَ وُجوهِنا.
خُلاصةُ ما مضى، أنَّ الإنسانَ، أنَّ المُسلِمَ لا بُدَّ لهُ منَ الوعيِ العميقِ بجَوهَرِ ذاتِه، مَنْ هُوَ حقيقةً في كتابِ الله، ومَن هُوَ في مُحاولتِهِ تحقيقَ ذلك؛ أي هل بلغَ الحقيقةَ أم قَصُرَ عنها؟ ولماذا؟ لكي يتصدّى بأعلى درجاتِ الوُضوح لأيِّ اتِّهامٍ أو تَصوِيرٍ وإيهامٍ لا حقيقةَ فيهِ تنطبِقُ على المُسلِمِ الحَقّ.
لَمَّا قالَ الشِّيطانُ للإنسانِ: {أّكّفّرً} ، تَصَوَّرَ الإنسانُ نفسَهُ كافِرًا قبلَ أنْ يتصوَّرَ اللهَ ( مَكفُورًا به، قبلَ أن يقتنعَ، ويستيقِنَ، ويتحرّى التّوهُّمَ الّذي أوقعهُ الشّيطانُ في خَلَدِه؛ أنكرَ ذاتَهُ، فأنكرَ خالِقَه، ولو لمْ يُنْكِر ذاتَهُ، لَتأكَّدَ لهُ أنَّهُ يَعرِفها على حقيقتِها، لَتأَكَّدَ لهُ أنَّهُ يعرِفُ خالِقَهُ ويُقِرُّ بِهِ خَالِقًا فَردًا صمدًا مالِكًا مَعبُودًا وحدَهُ دُونَ سِواه، وأنَّهُ (الإنسان) أحقُّ المخلوقاتِ بِأدبِ العِبادةِ والعِرفانِ الخالصِ ما دامَ قد تُوِّجَ بمنصِبِ خليفةِ اللهِ في الأرض: {وإذً قّالّ رّبٍَكّ لٌلًمّلائٌٌٌكّةٌ إنٌَي جّاعٌلِ فٌي الأّّرًضٌ خّلٌيفّةْ}،{ولّقّدً كّرَّمًنّا بّنٌي آدّمّ وحّمّلًنّاهٍمً فٌي البّرٌَ والًبّحًرٌ ورّزّقًنّاهٍم مٌَنّ الطَّيٌَبّاتٌ وفّضَّلًنّاهٍمً عّلّى" كّثٌيرُ مٌَمَّنً خّلّقًنّا تّفًضٌيلاْ}
لقد أدركَ الإنسانُ ذاتَهُ مِن خِلالِ إيهامِ الشّيطانِ لهُ وتَخيِيلِه بِحقِيقةِ ذاتِهِ الكَفُور، المُنكِرَةِ والجَاحِدَةِ لِفضلِ الله: {وكّانّ الشَّيًطّانٍ لٌرّبٌَهٌ كّفٍورْا } { وكّانّ الإنسّانٍ كّفٍورْا}
أوقعَ الشّيطانُ في خَلَدِ الإنسانِ التّخيُّلَ المَنبُوذَ المَحذُور، فَتَبِعَه، فأصبح كَفورًا لربِّهِ مثلَه، ما دام قد تقلَّدَ عِصمتَهُ الّتي أقسمَ فيها بِعزَّةِ اللهِ وجلاله بتضلِيلِ البشر ، إنّ تشابُهَ وتوازِي صيغة الجُملَتَين في تركيبِ الآيَتَين يُؤكِّدُ هذهِ التّبعيّة العَمياء؛ فالإنسانُ تابِعٌ للشّيطانِ في كُفرانِهِ وجُحُودِه، دُون التِفاتٍ لمن يَجحدُ فضلَهُ ويُنكِرُ نِعمَهُ (أي الله)، فيما الشّيطانُ المتبُوعُ عَارِفٌ لِذاتِه بأنَّ حقيقتَهُ الوحيدةَ هيَ كُفرانُ أنعُمِ اللهِ والجُحودُ بِأُلوهيَّتِه.
في هذا المَنزِع الفِكريّ الهامّ، ضربَ لنا عليه الصّلاةُ والسّلامُ مثلاً أعلىً في وَعيِهِ بآليَّةِ ومخاطِرِ التّخيِيلِ وإيقاعِ التّوهُّمِ حينما حاولَ الكُفَّارُ إيقاعَ توهُّماتٍ كثيرةٍ تُضعِفُ نفسَهُ، وتَكسِرُ شوكَةَ ذِهنِه، وتُطفِئُ مِشكاتَه، فقد وردَ أنَّ أُمَّ جميلٍ الْعوراءَ، زوجَ أبي لهبٍ، عبدِ العُزَّى بن عبدِ المُطَّلِب، عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَمّا بلغها ما أنزلَ اللهُ تعالى فيها وفي زوجِها في سورة المَسَد... أتَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو جالِسٌ في المسجِدِ عندَ الكعبةِ ومعهُ أبو بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه، وفي يدِها فِهْرٌ قِطْعةٌ منَ الحِجارَة، فلمّا دنتْ من الرّسول صلى الله عليه وسلم أخذَ اللهُ بصَرها عنهُ فلم ترَ إلاّ أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، بلغنِي أنَّ صاحِبَكَ يهجوني، فوَ اللهِ لو وجدْتُهُ لَضربْتُ بهذا الحَجَرِ فَاه، ثمّ أنشدتْ تقول:
مُذَمَّمًا عَصَيْنَا. وأمرَهُ أَبينَا، ودِيْنَهُ قَلَيْنا... «كَرِهْنا»
ثُمّ انصرفتْ، فقال أبو بكر: يا رسولَ الله، أما تَراها رأتْكَ؟ قال: ما رأتْنِي، لقد أخذ اللهُ بصرَها عَنِّي، وكانت قُريش يَسُبُّونَ الرّسولَ صلى الله عليه وسلم يقولونَ: مُذَمَّمًا بَدَلَ «مُحمّد»، وكان يقول صلوات الله عليه: أَلاَ تَعجبُونَ كيفَ صرفَ اللهُ عَنِّي أذى قُريش؟ يَسُبُّونَ ويهجُونَ مُذَمَّمًا وأنا مُحمّد....!
المعرِفةُ العميقةُ والوعيُ بجوهَرِ الذّاتِ، بل وبهامِشِها سببٌ في دَرْءِ خَطَرِ إيقاعِ التّصوُّراتِ المُضلَّلَةِ بالمَوصُوفِ أو المُصوَّرِ في كُلِّهِ أو جُزءٍ منهُ أو مُتعلِّقٍ به. «مُذَمَّم» على وزنِِ مُحمَّد» (مُفَعَّل -مُبالغة اسمِ المَفعُول: مَذمُوم، مَحمُود) وهيَ ضِدُّ صفةِ واسمِ «مُحمَّد»، لكنّها حُكمٌ بَشرِيٌّ من عدُوّ للهِ قبلَ أن يكونَ عدوًّا للبشر المُؤمنين، والمِيزان الإلهيّ هُوَ المأخُوذُ بهِ في اعتِبارِ الأُمور، وليسَ الميزان البشريّ مهما يَكُن، وبناءً عليه، هذا الوصفُ لا يدلُّ على رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، إنّما يدُلُّ ويُحِيلُ على تَصوُّرِ الهُدى -المُناقِضِ لِضَلالتِهِم وجَبروتِ طاغُوتِهِم في أنفسهِم.. في أذهانِهم؛ لِذا، هُم يَهجُونَ جُزءًا منهم، هو ذلكَ الّذي حاولوا إيقاعَ تصوُّرِهِ/ تَوهُّمِهِ/ تَخيُّلِهِ على ذهنِهِ عليهِ السّلام وفُؤادِه. الأمر نفسهُ في قضيّةِ إلصاقِ وصفِ «الإرهاب» بِ«الإسلام»، وهجاءِ الإرهاب والإرهابيّين، فهُم لا يَهجُونَ المُسلِمِينَ حقًّا، إنّما طائِفَةٌ من الّذينَ أغووهُم، وسرقُوهُم من كبِدِ الإسلامِ ضَالِّيْنَ مُضِلِّين، جاهِلِين بحقيقةِ دينِهم وأنفسهم، جاحِدينَ نَعماءَ وطنِهِم واحتواءَهُ لهم، وإذا سادَ الاقتناعُ بينَ المسلمينَ بأنّهم إرهابيُّون جميعًا، فتِلكَ مُصيبةٌ عُظمىً لا تُنتِجُ إلاّ أساليب من دَمار البشريّة، وتحطِيمِ مشوارِ نهضةِ الأُمّةِ الإسلاميّة، ومُحاولاتِها الجادّة لِتَرمِيمِ ما تَهالَكَ في أرواحِ وعُقولِ بَنِيها الغَاوِين.
ضرورة معرفَة ديناميّة حياة المُصطلح
وبِتَضيِيقِ التّأمُّلاتِ حولَ «الإرهاب»، يتّضحُ أنّهُ ليس المهمّ معرفة أصل/ مفهوم المصطلح بالدّرجة الأُولى؛ إذ معرفةُ كيفَ يعمل/ يَشتغِل/ يُؤثِّر هيَ الأهمّ، والمقصُود معرفةُ تطوُّراتِ هذا الكائن الحيّ (المصطلح) الّذي يَنتَشِرُ ويَحْيَا فِي العُقُول كالطُّفَيْلِيَّات الدُّودِيَّة، الّتي لها بِنيَةٌ بيُولوجيّةٌ وَظِيفِيّةٌ أساسيّة، تنتظِمُ حركتُها وِفْقَها، وكذلك ما قد يَشِذُّ عن هذا النِّظامِ/ الانتِظام.. لهُ دوافِعُهُ الواضحة.
بمعرِفةِ كيفَ يعملُ العقلُ الإنسانيُّ، كيفَ يُفكِّر: يُلاحِظ، يُسَمِّي، يُصَنِّف، يُنَظِّم، يُفَسِّر، يَشرَح، يُعلِّل، يُؤَوِّل، يُقَوِّم، يَستَبعِد، يتجاهَل، يُركِّزُ، يُضخِّم، يَنتَقِي، يُلَخِّص، يُفَصِّل... حتّى يَصِلَ لِغايةٍ مَقصُودةٍ أو لِشيءٍ مجهُول؛ بمعرفةِ ذلك كانَ التّحكُّم من خلال تأسيس ما سُمِّيَ المنهَجِيَّةَ العِلميَّة Scientific Methodology)) والّلاعِلمِيّة، وتَمايَزت العُلُوم: المنطِق، الفلسفة، الفيزياء، الطبيعة، الأدب،... بل تمايزتْ أقسامُ العُلوم نفسها؛ فالأدب: شعرٌ، ونثرٌ، والشِّعر: مَلْحَمِيٌّ، غِنائِيٌّ (وِفْقَ الموضوع)، تَفْعِيلِيٌّ، عَمُودِيٌّ، نَثْرِيٌّ (وِفْقَ الشّكل/ البِناء)، شَرقِيٌّ، غَربِيٌّ (وِفْقَ الجُغرافيا، والثّقافة، والأيديولُوجيا). ولتوضيحِ أهمّيّةِ معرفةِ دِيناميّةِ المُصطلح يأتي مِثالٌ من الحياةِ النّبويّة اليوميّة يُبيِّنُ لنا دِيناميّةَ العسلِ في الشِّفاء؛ أي كيفَ يعمل العسلُ في جسد الإنسان؛ قال ابنُ قيِّم الجوزيّة (691هـ-751هـ): «وأمَّا هَديُهُ في الشّرابِ، فمن أكمل هَدْيٍ يحفظ به الصّحّة، فإنّه كان يشربُ العسلَ المَمزُوجَ بالماءِ البارِد، وفي هذا من حِفظِ الصّحّةِ ما لا يهتدِي إلى معرِفتِهِ إلاّ أفاضِلُ الأطبّاء، فإنّ شُربَهُ ولَعْقَهُ على الرِّيق يُذِيْبُ البلغم، ويَغسِلُ خَمْلَ المعدة، ويجلو لُزوجتَها، ويدفع عنها الفضلات، ويُسخِّنها باعتِدال، ويفتحُ سددها، ويفعل مثلَ ذلك بالكبِد والكُلى والمَثانة، وهو أنفعُ للمعدة من كُلِّ حُلوٍ دخلها، وإنّما يَضُرُّ بالعَرَضِ لصاحِبِ الصّفراء لِحِدّتِهِ وحِدّةِ الصّفراء، فرُبّما هيّجها، ودفع مضرَّتِه لهم بالخلِّ، فيعودُ حينئذٍ لهم نافِعًا جدًّا.
كيفيّة عملِ العسل في شفاء الأمراض واضِحةٌ خطوةً خطوة، كذلك عملُهُ إذا لامَسَ مَنْ لَدَيْهِ مرضٌ ضِدّ العسل؛ أي ثغرةٌ أمنيّة، أضرَّ بهِ جِدًّا، وتبدَّل المفعُول نظرًا لطبيعة الشّارب أو المُنفعِل بالمَشرُوب. وهذا مثلُ حالِ المُسلِمين والأمريكيّين: الأمريكيُّون خلقُوا وصفَ «الإرهاب»؛ تعليلاً لهُم وشِفاءً من تأنِيبِ الضّمير في منهجِهِم التّعامُلِيّ العالميّ، وكذلكَ لِيشفِيَ المُسلمينَ من نُفُورِهِم تجاهَ أمريكا. لكنْ لَمَّا انصبَّ هذا المحلُول (المصطلح) ضربَ في جهتَين:
1-المسلمين: لديهم ثغرةٌ أمنيّةٌ بوُجودِ جماعةٍ ضعيفةِ الوازِعِ الدِّينِيّ الإسلاميّ، لم تُقدِّر انتِماءَها الإسلاميّ بما فيهِ من شرفٍ، وتميُّزٍ، ومسئوليَّاتٍ جِسام.
2-الأمريكيّين: لديهم ثغرةٌ أمنيّةٌ بوُجودِ تأنِيبِ الضّمير عندَ مُتعصِّبِيهِم، وبوُجودِ الإيمانِ بأنّ التّاريخَ في أحدِ معانيه، أو أشكالِه، أو سياساتِه، أو طبيعةِ عملِه يتكرَّرُ في شكلِ حلقاتٍ تُعِيدُ نفسَها؛ فَرُبَّما عادَ المُسلمونَ لعهدِ القُوّةِ ذاكَ والسّيطرة، كأنّما التّاريخ حَبْلٌ طويلٌ فيهِ عُقَدٌ تتكرّرُ على مسافاتٍ مُتباعدةٍ كثيرًا ما يتشابَهُ منها اثنانِ أو أكثر في شكلِها الخارجيّ، والأهمّ هوَ نواتُها الدّاخليّة الّتي هيَ قَلْبُ دِيناميّةِ تكوُّنِها بِمُلابَساتِها جميعِها.
إذا عرفنا كيفَ يعملُ الشّيء؛ أي ديناميّتُه، أصبحنا قادِرينَ على السّيطرة عليه من خلالِ تخيُّلِنا/ توهُّمِنا؛ فالإرهاب قد نتخيَّلُهُ مُجرَّدَ مُصطلحٍ مُحفِّزٍ لنا على تأصِيْلِ إسلامنا، وتَقوِيةِ ارتِباطِنا القلبِيّ، والفِكريّ، والعَمليّ ذِي الوَجْهِ الواحِدِ مع الكُلّ. قد نتخيَّلُهُ مُفجِّرًا يَسخرُ من هُدوئِنا، وسَلامِنا، وسِياستِنا، ودبلوماسيّتِنا بعدمِ لُجوئنا لِلُغةِ الحربِ الكيميائيّة، فنعتبرهُ إهانةً لازِمةَ الرّدِّ بِأفظَعِ الأساليب.. وهذا من مخاطِر رُدُودِ الفِعل الّتي تقصِدُ غليها تناقُضاتُ مفهُومِ مصطلح «الإرهاب» الّتي سَعَتْ هذهِ الدّراسةُ لكشفِها؛ تَحذِيرًا منها، وطَلبًا للتّخلُّص منها.
المصطلح أصبح كائناً حيًّاً يفترِسُ أذهانَ البَشر
لقد تحوَّلَ «الإرهاب» حقيقةً إلى كائنٍ يُؤثِّرُ ويتحكَّمُ، مثلما يُعرَضُ في السّينما الأمريكيّة من غزوِ الغُرباءِ للإِنس، وبالأصحّ لإنسانيّةِ الإنس، فبِمُجرَّدِ انغِراسِ ظِفرِهِ/ نَابِهِ في الآخَر، يتحوَّلُ إلى تابِعٍ له، بل يُبدِعُ في التّبعِيّةِ درجةَ أنَّ الزّعِيمَ قد يتّخذُهُ الوَصِيفَ أو البدِيلَ في حالةِ غيابهِ أو قُربِ مَوتِه، وهوَ باقٍ على هيئتِهِ الإنسانيّة الخارجيّة الّتي هيَ قِناعُ سَيْرِهِ بينَ البشر وأداءِ وظيفتِهِ الوحشيّة التّدميريّة، كما في أُسطورةِ الخيالِ العِلميّ في سلسلةِ العرضِ التّلفزيونيّ «بَفِّي: قاتِلة مَصَّاصِي الدِّماء» (Buffy : The Vampire Slayer) ؛ فهيَ تعكِسُ شيئًا من آليّةِ تفكِيرِ المُجتَمَع الأمريكيّ المُتعصِّب خصوصًا، وما مثله من الغربيّ عُمومًا.
مِثالُ هذه السّلسلة قد يَنتقدهُ مُنتقِد، لكنّ أشكالَ الثّقافة جميعها: كتب، مُسلسلات، أفلام، أحاديث إذاعيّة، مؤسّسات، ألعاب،. .. إلخ، داخِلَةٌ ضمنَ دراسةِ «تاريخِ الأفكار» History of Ideas) 64 الّذي هو موضوعٌ من موضوعاتِ صُلْبِ «الأدبِ المُقارن» (Comparative Literature) ، وبالأخصّ «الاستِشراق» (Orientalism) وهذه المظاهر داخِلَةٌ ضِمنَ معرِفةِ لُغةِ القوم لأجلِ تَكفِّيْ شَرِّهِم كما في القولِ الشّهِير «مَن تعلَّمَ لُغةَ قومٍ أَمِنَ شَرَّهُم (65)»؛ لأنّ لِلُّغةِ معناها الحَرفِيّ اللّفظيّ الألسُنِيّ المُجرَّد، ولها معنى الفِكر وأشكال التّعبير عنه، فالكُتُب لُغة، والسّياسات لُغة، والأفلام لُغة، ومواقع الإنترنت لُغة، وطائرات الأباتشي (AH64 Helicopter) لُغة، وأمّ القنابل لُغة.
نِهايَة
إنَّ مُصطلَحَ «الإرهاب»، الأفعى الّتي انقلبتْ تَلْقِمُ أهلها، قد انفَلَت، وأصبَحَ يضغطُ على الجانِبَين: مُسالِم مع الأمريكيّين، وأوقَعَ رُهابًا عندَهُم لا يُحَلّ، وأدّى لِسُوءٍ فاحِشٍ في بعضِ المَباحِثِ العِلميّةِ والتّعامُلاتِ الدّوليّة، وعِدائِيّ مع المسلمين، لا بُدَّ أن يُحكِمُوا تَعامُلاتِهِم معهُ من جوانِبِها كُلِّها؛ كي يقضُوا عليهِ ويَجتثُّوْهُ مِنْ جُذُورِهِ المُراوِغَة؛ إذ لم يَعُدِ الوُضوحُ والمِصداقيَّة من أبرزِ سِماتِ الخِطابِ الأمريكيّ السّياسيِّ الاستِعماريّ؛ لأنَّ الواقِعَ يَنفِي ذلك بقُوّة وسُرعة، ممّا ألجأهُم إلى أساليبِ الاحتِيال، وتسمِيةِ الأمور بغيرِ أسمائِها، وإسقاط الأوصاف على غيرِ مُستحِقِّيها، ورسْمِ صُورِ الشُّعوب والأديان بأيِّ طريقةٍ تُناسبُ المُخطَّط الاستِعماريّ التّهوِيدِيّ.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved