Monday 24th november,2003 11379العدد الأثنين 29 ,رمضان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
إِضاءة قرآنية
عبدالرحمن صالح العشماوي

الرحلة الروحية مع القرآن الكريم لا نظير لها في حياة البشر، لأنها رحلةٌ إلى السموِّ، والصفاء، واليقين، رحلةٌ إلى الإيمان الذي يغسل القلوب من أدران الهموم، وأوضار الشهوات، وينقِّي العقول من شوائب الشبهات.
ولا تكون رحلة القارئ مع آيات القرآن على هذا المستوى من السموّ الروحي إلا إذا صاحبها التأمُّل والتدبُّر، والنظر والتفكُّر، والوقوف أمام تناسقها البديع، وأسلوبها الرَّفيع، حيث يصل القارئ إلى أعلى درجات الخشوع.
كنت في رحلةٍ مع آيات سورة التوبة، هذه السورة العظيمة، ووجدت في آياتها - كما هو شأن القرآن كلّه - ما يستحق الوقوف الطويل للتأمل في معجزات هذا التنزيل.
حينما وصلت بي رحلة التلاوة المباركة إلى قوله تعالى: { المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَنِ المَعرُوفِ وَيَقبِضُونَ أَيدِيَهُم نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ) (التوبة:67) وّعّدّ اللهٍ المٍنّافٌقٌينّ وّالًمٍنّافٌقّاتٌ وّالًكٍفَّارّ نّّارّ جّهّنَّمّ خّالٌدٌينّ فٌيهّا هٌيّ حّسًبٍهٍمً وعّنّهٍمٍ اللّهٍ وّلّهٍمً عّذّابِ مٍَقٌيمِ } .
وقفت أتأمُّل هذا الإعجاز البياني في التعبير الدقيق، والبيان الواضح لحالةِ فئةٍ من الناس، يعيشون في هذه الحياة الدنيا على هامشها الأسود لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ولا يبسطون يد العطاء في مجالات الخير بقصدٍ ونيةٍ خالصة وهي حالة خارجةٌ على قانون الفطرة السليمة التي فطر الله عليها الناس حين خلقهم، ولأن حالة الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض اليد من الحالات المناقضة للفطرة السليمة، والقلب السليم، والنفس السويَّة، فقد جاء البيان في الآية مباشرة في قوله تعالى: {نّسٍوا اللهّ فّنّسٌيّهٍمً}، وكأن الإيحاء البياني في الآية يقول لنا حين نندهش لحالة المنافقين تلك: لا تندهشوا فإن السبب هو نسيانهم لله عز وجل فلم يطيعوه، ولم يؤمنوا به، وكان الجزاء من جنس العمل، حيث نسيهم الله عز وجل بخذلانه لهم، وعقابهم على سوء أعمالهم، ولذلك أصبحوا مخالفين للحق، مناقضين لسلامة الفطرة البشرية، فأمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف وقبضوا أيديهم عن الخير، ثم أكدت الآية الكريمة أنهم هم الفاسقون بعد بيان حالة الانحراف التي هم عليها.
ولا بد من اكتمال الصورة البيانية البديعة، حيث بيَّنت الآية الأخرى العقاب الشديد في الآخرة، الذي يكمِّل الجزء الأوَّل من العقاب في الدنيا، إنه العقاب بنار جهنم التي هي حسبهم، وباللعنة لهم التي طردتهم من رحمة الله، وبالعذاب «المقيم» والعياذ بالله.
وبعد هذا التوضيح لحالة هذه الفئة وما ينتظرها من عقاب في الدنيا والآخرة، تنقلنا الآيات الكريمات إلى الصورة المقابلة لنرى الفرق الهائل بين الصورتين، يقول تعالى: {وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وّعّدّ اللهٍ المٍؤًمٌنٌينّ وّالًمٍؤًمٌنّاتٌ جّنَّاتُ تّجًرٌي مٌن تّحًتٌهّا الأّنًهّارٍ خّالٌدٌينّ وّمّسّاكٌنّ طّيٌَبّة فٌي جّنَّاتٌ عّدًنُ وّرٌضًوّانِ مٌَنّ اللهٌ أّكًبّرٍ ذّلٌكّ هٍوّ الفّوًزٍ العّظٌيمٍ}.
هنا يشعر المتأمِّل المتدبِّر بإعجاز البيان القرآني وهو يرى صورتين واضحتين أمام عينيه، يكاد يلمسهما بيديه؛ صورةً مظلمة قاتمة فيها أمرٌ بمنكر ونهي عن معروف وبخل قبيح، ونسيان لله، وخذلان من الله، وفسوق، ونار ملتهبة ولعنة وعذاب مقيم، وصورة مشرقة صافية فيها أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلاة، وزكاة وطاعة لله ورسوله ورحمة من العزيز الحكيم، وجنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة ورضوان من الله وفوز عظيم.
هكذا تتجلى الحقيقة بهذا البيان المعجز، ويُفتح باب الموعظة والعبرة على مصراعيه، وتسمو روح المسلم المتدبِّر للآيات إلى موقع مرتفع يرى من شرفته أهل الباطل وأصحاب النفاق في أسوأ حال مهما بدا لهم من البريق واللمعان.
إنه القرآن نبراس الهداية لبني الإنسان.
إشارة


يا مسلم الخير، عين الكون حائرة
وقد تمكن من وجدانه التَّعَبُ
فاقرأ عليه كتاب الله، داو به
جرح المريض الذي ما زال ينتحبُ

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved