Wednesday 17th december,200311402العددالاربعاء 23 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قصص لها عبر قصص لها عبر

هذه عدة مواقف صغيرة تأخذ شكل قصص لها عبر.
قصص فيها دلالات على شخصية الوالد الشيخ محمد بن ناصر العبودي في تربيته لأولاده وفي معاملته مع الآخرين.
شريفة محمد العبودي
هكذا تؤكل الكتف
الوقت شتاء اشتد فيه البرد.
- وقت مناسب للإفطار بالحنيني «وجبة نجدية شهيرة تحضر من البر والتمر والزبد». قالها الأب وهو ينظر إلى أطفاله بسرور.
الاستعدادات تتم في احتفالية تتناسب مع مكانة الحنيني في نفوس أهل نجد قديماً. الحنيني طعام الأغنياء. ليس كل من كان يستطيع التمتع به!
في اليوم السابق لأكل الحنيني. تعجن الأم العجين من دقيق البر غير المنخول، ثم تخبزه أرغفة ذهبية. وبعدها تقطعه إلى قطع صغيرة وتعجنه مع تمر لين قد أزيلت أقماعه ونواه، ثم تمرره من خلال مفرمة اللحم مرتين وهي تصب عليه القليل من الزبد، ثم تعيد عجنه بيديها حتى يتحول إلى كتلة من العجين تشكله على هيئة نصف كرة وتضعه في قدر في الثلاجة حتى فجر اليوم التالي.
قبل آذان الفجر بساعة تقريباً تقوم الأم وتحضر منقل الجمر والفحم وأدوات الحنيني وملابس الأطفال الثقيلة ثم توقظهم وتتأكد من ارتدائهم للكافي من الملابس.. وما أن يعود الأب من صلاة الفجر حتى يركب الجميع السيارة التي تنطلق تنهب الأرض إلى البر. أي مكان بعيد عن العمران يقفون فيه قبل أن ينقشع الظلام حيث تسارع الأم إلى إشعال الفحم في المنقل ووضع قدر الحنيني عليه وصب المزيد من الزبد وعصير الأترج أو الليمون وقليل من اللبن في حفرة تشكلها الأم في أعلاه والجميع يشارك في إذكاء الجمر تحته. وما أن يبدأ الحنيني في الهدير وتتصاعد منه الروائح اللذيذة حتي يتحلق الجميع حول المنقل مع انبلاج النور لتناول الحنيني ويشمر الأب كمه الأيمن حيث يبدو على ساعده صف من آثار كي كان يقوم به الشباب قديماً لتقوية الذراع وجعل الشخص المكوي أكثر قدرة على تسديد السلاح نحو الهدف.
ويسمي الله وعندما لاحظ أن أحد الصغار يهمس في أذن أمه قال:
- لا، لا ملاعق. هكذا يؤكل الحنيني، بثلاثة أصابع، بالشاهد والأوسط والإبهام تؤخذ قطعة وتغمس في الزبد والحامض في أعلى الحنيني ثم تؤكل بسرعة قبل أن تبرد.
- بس الحنيني حار، لا أستطيع لمسه.
- تحملوا. الحنيني ما له لذة إلا بالأصابع. ترا «كل صقعة بتعليمة».
وتستمر الوجبة ونور الشمس يوالي تبديد الظلام. والوجوه تكاد تحترق من وهج الجمر المشتعل والظهور تكاد تتجمد من البرد، ولقيمات الحنيني اللذيذة الغنية بالحلاوة والدهن تنزلق إلى الجوف لتعادل ذلك. ووجبات أخرى من التراث تتوالى:
- من أول من يحصل له يأكل حنيني. الحنيني من أول طعام الأغنياء. ما سمعتم المثل اللي يقول «كل حنيني والبس جوخه». إليكم قصة المثل. يقال إنه كان هناك صبي صغير اعتاد اللعب مع طفل لرجل غني، وفي يوم من أيام الشتاء الباردة لم يستطع الطفل الصغير أن يلعب لشدة البرد. فانبرى الطفل الثري ينصحه ويقول له إن دواء البرد أن تأكل الحنيني وتلبس حلة من الجوخ، وأخذ يلح عليه بأن يفعل ذلك مع أنه لا يستطيع ذلك.
ويلاحظ الوالد أن أحد الأبناء يحاول تقويض جدار الحفرة التي فيها الزبد والحامض لينسكب ما فيها باتجاهه كنوع من المداعبة فيقول:
- يقول المثل «كل ولا تخرب».
وبعد انتهاء الوجبة يتمشى الوالد والوالدة ويلعب الأطفال قليلاً، ثم تجمع الأغراض والوالد يوجه في كل مرحلة:
- احفروا حفرة للجمر المشتعل وادفنوه حتى لا نتسبب في حريق ثم يتفقد كل شيء وهو يقول:
- إيه كذا. «كل شي زهاه تمامه».
المحسن والصغير
روى الوالد هذه القصة التي حدثت في العراق في الخمسينيات من القرن المنصرم. رواها لأولاده دون أن يذكر لهم أن له يدا فيها:
سافر رجل إلى بغداد وأخذ يتجول في السوق يتفرج على ما فيه فلحقه طفل صغير في حوالي التاسعة من عمره يطلب منه إحساناً. الجو بارد وثياب الطفل مهلهلة لا تكاد تغطي جسده البادي النحول.
- والله جوعان يا سيدي. أعطني فلوساً لأشتري طعاماً. فقال المحسن لن أعطيك فلوساً فلربما لعبت بها، أو استمرأت الشحاذة، ولكن سأشتري لك طعاماً يسد جوعك وثياباً تدفئ جسدك.
- كثر خيرك سيدي.
أخذه الرجل المحسن واشترى له طعاماً، وانتظر حتى أكله، ثم ذهب به إلى بائع الثياب واشترى له ثياباً جديدة. ووضع الطفل ثيابه القديمة في كيس حمله وشكر الرجل المحسن وانصرف.
ودون أن يشعر الطفل لحقه المحسن ليرى ما يفعل، فرآه قد توارى في أحد الأزقة وخلع ثيابه الجديدة وارتدى القديمة ثم حمل الجديدة وعاد بها إلى السوق ينادي عليها حتى باعها وقبض ثمنها. واستمر المحسن يتبع الطفل دون أن يشعر به لكي يرى ما يفعل.
اتجه الطفل إلى باعة الأطعمة واشترى بثمن الملابس طعاماً حمله وغادر السوق والمحسن يتبعه حتى وصل إلى بيت خرب في زقاق منعزل دخل فيه. انتظر المحسن قليلاً ثم قرع الباب ففتح له الصغير الذي استغرب وجوده، ومن خلف الصغير بدت امرأة متوسطة العمر وعدد من الصغار عرف المحسن من الصغير أنهم أمه وإخوته. لقد باع الصغير الثياب الجديدة ليشتري بثمنها طعاماً لأمه وإخوته الجياع
الأمانة
قبضت الصبية على الريالات الورقية بقوة وهي تسير في الزقاق الضيق بمحاذاة الجدار. ثم توقفت وفتحت راحتها تنظر إلى الريالات في راحة يدها. ورقة من فئة الخمسة ريالات وثلاث ورقات من فئة الريال. تنهدت الصبية، وتلفتت حولها، وعندما وجدت أن الزقاق خال أرخت ذراعها وتركت الريالات تسقط على الأرض. ودون أن تنظر إليها استمرت تسير بهدوء حتى ابتعدت قليلا والصوت الأبوي الآمر يتردد في أذنيها:
- لا تضعيها في ذمتك. ضعيها حيث وجدتيها، فقد يعود صاحبها باحثا عنها. وعلى أول عتبة صادفتها، غير بعيد عن مرأى الريالات الملقاة، جلست الصبية تراقب ما بدا لها كنزاً في تلك الأيام.هبت نسمة خفيفة حملت الريالات لبضع خطوات وفرقتها، والصبية الصغيرة لا تزال تراقب، ثم أقبلت عنز مصرية تتهادى من أول الزقاق. وجلت الصغيرة لمصير الريالات، ولم يطل انتظارها حتى أرخت العنز عنقها الطويل والتقمت ورقة الخمسة ريالات وغيبتها في فمها، وعادت تهادى متجاوزة الريالات الأخرى المحشورة قرب الجدار حتى غابت في آخر الزقاق.
استمرت الصغيرة تراقب مصير الثلاثة الأخرى. ولم يطل الانتظار حتى أقبل صبي رأي الريالات فانحنى يلتقطها تباعا ويدسها في جيبه ويستمر في طريقه دون أن يجول أو يلتفت.
قامت الصغيرة متثاقلة من مكانها وفي خيالها صورة مضيئة لأشياء كثيرة وجدتها ثم أعادتها إلى مكانها بأمر من أحد والديها. وشعرت بالحزن لا يزال يلسع وجدانها وهي تتذكر ساعتها الجديدة التي فقدتها في المدرسة في أول يوم تلبسها فيه. لو أن لكل الناس صوت أبوي يحثهم على الأمانة لعادت أغلب المفقودات إلى أصحابها.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved