Saturday 27th december,200311412العددالسبت 4 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

العلاقة بين الأمن والإيمان العلاقة بين الأمن والإيمان
د. عبدالعزيز بن فوزان بن صالح الفوزان

الأمن حاجة إنسانية ملحة، ومطلب فطري لا تستقيم الحياة بدونه، ولا يستغني عنه فرد أو مجتمع. والحياة بلا أمن حياة قاحلة مجدبة، شديدة قاسية، لا يمكن أن تقبل أو تطاق.
فالأمن من أهم مقومات السعادة والاستقرار، وأهم أسباب التقدم والتحضر والرقي. وهو مطلب تتفق على أهميته جميع الأمم والشعوب، والأفراد والمجتمعات، في كل زمان ومكان.
وإن ضرورة الناس الى الأمن، لا تقل عن ضرورتهم الى الطعام والشراب، إن لم تزد عليها، إذ كيف يهنأ الانسان بطعام أو شراب أو غيرهما، وهو خائف مذعور، يتوجس خيفة، ويتوقع الهلاك في أي لحظة، ويخشى من انتهاك حرماته، وهتك عرضه وعوراته، وسلب أمواله وممتلكاته، وتضييع حقوقه ومصالحه، وإذلاله وامتهانه.
وإذا فقد الأمن تعطلت مصالح الناس، وانقبضوا عن السعي والكسب، وانحصرت هممهم بتأمين أنفسهم ومن تحت أيديهم، ودفع الظلم والعدوان الواقع أو المتوقع عليهم.
وهل يمكن للانسان أن يعبد ربه، ويقوم بواجبات دينه - كما أمره الله - والخوف يحاصره، والقلق يساوره، وتوقع المكروه يخنق صوته، ويكتم أنفاسه؟!!.
وكيف يتأتى للإنسان أن يبدع ويفكر، وعقله في حيرة وذهول، وذهنه مشغول بتأمين نفسه وأهله، وحماية ما يستطيع من حقوقه ومصالحه؟!!
وكيف يمكنه الانطلاق لتنمية ماله واستثماره، واللصوص وقطاع الطريق واقفون له بالمرصاد، يتحينون الفرصة للانقضاض عليه، وسلب ما لديه، والاستيلاء على ما في يديه؟!!
فلا يمكن للحياة أن تستقر وتزدهر إلا بالأمن، ولا يمكن أن تستقيم أحوال الناس، وتنتظم أمورهم، وتهدأ نفوسهم إلا بتوفره. ولا يكاد الناس يجمعون على طلب شيء والسعي لتحصيله، كما يجمعون على طلب الأمن والحرص عليه.
ولما كان الأمن بهذه المثابة من الأهمية وشدة الاحتياج اليه، كان تحقيقه من أهم واجبات الدول والحكومات على مر العصور، بل لم تقم الدول والحكومات أصلا إلا لإقامة مصالح الناس، وتحقيق الأمن والاستقرار لهم، وتسيير شؤونهم، ونشر العدل في صفوفهم، ومنع التعادي والتظالم فيما بينهم، وصد كيد أعدائهم عنهم.
ومع إجماع الناس كلهم على أهمية الأمن، ووجوب تحقيقه، إلا أنهم يختلفون اختلافا كثيرا في وسائل تحقيقه، وأسباب جلبه وتوطيده. فلكل مذهب ونظام رؤيته ونظرته الخاصة، وله طريقته ووسائله التي يراها محققة للأمن وموفرة له.
ومع كثرة الاهتمام بقضية الأمن في هذا العصر، وكثرة الدراسات حوله، والمؤتمرات التي تعقد على أعلى المستويات من أجل الوصول الى أنجع السبل لتوفير الأمن وتحقيقه، إلا أن الأمن بمعناه الشامل مفقود في كثير من دول العالم، والقلق والحيرة يعربان في النفوس التي لم تطمئن بالايمان، والجرائم في تفاقم مستمر، وخصوصا في دول الغرب المتقدمة ماديا وصناعيا، التي أصبحت الجريمة سمة من سمات مجتمعاتهم، على الرغم من كل ما توفر لهم من تقدم علمي وتقني وإداري، ورخاء مادي، وتطور حضاري، وعلى الرغم من كل الاحتياطات التي تقوم بها تلك الدول، وتجنيد الطاقات والقوى لمكافحة الاجرام والقضاء عليه.
ولا يزال طوفان الجريمة هناك يتزايد باستمرار، والمحترفون للاجرام يتكاثرون مع الأيام، حتى لم تعد الجرائم - كما كانت من قبل - مجرد جرائم فردية محدودة، بل صارت جرائم جماعية عظيمة الضرر شديدة الخطر. وأصبح المجرمون يشكلون عصابات اجرامية محترفة، وقوى ارهابية منظمة، تضارع الدول والحكومات في قوتها ودقة تنظيمها، وفي توظيفها للتقنية في خدمة اجرامها وظلمها.
ولقد بلغ المجرمون هناك درجة لا تكاد تصدق من الاستهتار بالانسان، واسترخاص دمه، واستباحة ماله وعرضه. فهم يسفكون الدماء لأتفه الأسباب، ويقطعون السبل، ويغيرون على المصارف والمتاجر، ويهتكون الحرمات، وينتهكون الأعراض، وينشرون الرعب، ويلاحقون ضحاياهم في البر والبحر والجو، من قاومهم قتلوه، ومن سكت عنهم أهانوه وابتزوه.
ونحن المسلمين نعلم يقيناً: أنه لا أمان بلا إيمان، ولا سلام بلا إسلام، ولا طمأنينة ولا استقرار لمن حاد عن منهج الله القويم، واحتكم الى غير شريعته المطهرة التي أنزلها رحمة للعالمين.
فقد جاءت هذه الشريعة المباركة لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وكفالة أمنهم وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، يقول الله عزوجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام: 82]، أي لهم الأمن التام في الدنيا والآخرة: أمن من سخط الله وعقابه، وأمن من جميع المكاره والشرور.
قال العلماء: فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقاً، لا بشرك ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا ايمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، فإنهم وإن حصل لهم أصل الأمن والهداية، لم يحصل لهم كمالهما، بل ينقص من أمنهم وهدايتهم بقدر معاصيهم ومخالفتهم لأمر ربهم.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور: 55] .
فهذا وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات: أن يستخلفهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وقد تحقق هذا الوعد - ولن يخلف الله وعده - يوم أن كان المسلمون قائمين بهذا الشرط {يّعًبٍدٍونّنٌي لا يٍشًرٌكٍونّ بٌي شّيًئْا}. ولن يزال هذا الوعد قائما ما وجد هذا الشرط، فهو مرهون به، يوجد بوجوده، ويفقد بفقده.
يقول سيد قطب في الظلال 4/2530:«فإنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله، وحكّمت هذا النهج في الحياة، وارتضته في كل أمورها.. إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن. وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلّفت في ذيل القافلة، وذلّت وطرد دينها من الهيمنة على البشرية، واستبد بها الخوف وتخطفها الأعداء. ألا وإن وعد الله قائم، ألا وإن شرط الله معروف، فمن شاء الوعد فليقم بالشرط، ومن أوفى بعهده من الله؟؟».
وقال عزوجل: {فّمّن تّبٌعّ هٍدّايّ فّلا خّوًفِ عّلّيًهٌمً وّلا هٍمً يّحًزّنٍونّ} [البقرة: 38]. أي: فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر دنياهم وآخرتهم، {وّلا هٍمً يّحًزّنٍونّ} على ما فاتهم ومضى عليهم من أمور الدنيا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فّمّنٌ اتَّبّعّ هٍدّايّ فّلا يّضٌلٍَ ولا يّشًقّى"} [طه: 123] . فقد تكفل الله - عزوجل - لمن اتبع هداه، واستجاب لأمره، والتزم بشرعه، ألا يضل في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يشقى فيهما، فله الهداية التامة، وله السعادة والأمن في الدنيا والآخرة.
كما ضمن له في الآية السابقة: أن يدفع عنه الخوف فيما يستقبله من أمر دنياه وآخرته، ويدفع عنه الحزن على ما فاته وجرى عليه. وبهذا يتحقق له ما يصبو اليه من الأمن والطمأنينة، والهدى والسعادة في معاشه ومعاده.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره 1/54:«فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف والحزن، والفرق بينهما: أن المكروه إن كان قد مضى، أحدث الحزن، وإن كان منتظراً، أحدث الخوف، فنفاهما عمّن اتبع الهدى، وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة. فمن اتبع هداه حصل له الأمن، والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى. وانتفى عنه كل مكروه من الخوف، والحزن، والضلال، والشقاء. فحصل له المرغوب، واندفع عنه المرهوب. وهذا عكس من لم يتبع هداه، فكفر به وكذب بآياته».
وقال سبحانه وتعالى مؤكداً هذه الحقيقة العظيمة، وهي أن السعادة الحقيقية، والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة، إنما هي للمؤمنين فقط: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97] . فمن كان هذا حاله من الايمان والعمل الصالح، فجزاؤه في الدنيا: أن يحيا حياة طيبة، آمنة مستقرة، هنيئة ندية، حتى وإن حلت به المصائب، وتكالبت عليه الشدائد، فإن سعادته في قلبه، وروحه مطمئنة بذكر ربه، كما قال تعالى:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28].
وقد عجب النبي صلى الله عليه وسلم من أمر المؤمن، وأن أمره كله له خير، سواء كان في حال الضراء أو في حال السراء، فقال عليه الصلاة والسلام :«عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» رواه مسلم.
كما بين صلى الله عليه وسلم أن الفلاح الحقيقي في الدنيا والآخرة، إنما هو لمن أسلم لله تعالى واتبع هداه، فقال:«قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه» رواه مسلم.
وقال سبحانه وتعالى مؤكداً هذه الحقيقة العظيمة، وهي أن السعادة الحقيقية، والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة، إنما هي للمؤمنين فقط: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97] . فمن كان هذا حاله من الايمان والعمل الصالح، فجزاؤه في الدنيا: أن يحيا حياة طيبة، آمنة مستقرة، هنيئة ندية، حتى وإن حلت به المصائب، وتكالبت عليه الشدائد، فإن سعادته في قلبه، وروحه مطمئنة بذكر ربه، كما قال تعالى:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28].
والضنك، هو الضيق والشقاء والشدة، والمتأمل لهذه الكلمة يجد لها جرساً غريباً، وايحاء عجيباً، حيث تصور هذا البائس وكأنه يختنق من شدة الضيق والحرج الذي يتلجلج في صدره، وكأن الخوف والشقاء يحاصرانه حيثما حل وارتحل، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن ما شاء، فإن قلبه ما لم يخلص الى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة.
وإذا كان المجتمع كله على هذه الحال من الإعراض عن الهدى، ونسيان الشرع، فإنه بذلك يستجلب غضب الله، ويكون عرضة لأنواع الخسف والهوان، والمسخ والإذلال، والخوف والقلق، والضيق والضنك.. وهذه سنة الله مع كل من كفر به ورضي منهجاً غير منهجه.
وقد
ضرب لنا مثلا بتلك القرية الآمنة الوادعة، وكيف تبدلت حالها بعد أن كفرت بأنعم الله، يقول الله تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. فلما لم تشكر نعمة الله عليها بالأمن والطمأنينة، ورغد العيش، أحلّ الله عليها غضبه وعقابه، فأبدلها بالأمن خوفاً ورعباً، وبالطمأنينة قلقاً واضطراباً، وبالرزق جوعاً وفقراً، وما ربك بظلام للعبيد. وهاهم أصحاب الحجر، كانوا في نعمة سابغة، وقوة بالغة، وحضارة باسقة، وأمن وارف، فلما كذّبوا الرسل، واستكبروا عن قبول الحق، وعتوا عن أمر ربهم، حلّت عليهم نقمة الله، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ } [الذاريات: 44 - 45] ، فزالت نعمتهم، وانقشع أمنهم، كما قال تعالى}وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الحجر: 80 - 84] . وقد أكد ربنا هذه السنة الشرعية في أكثر من آية، فقال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . والطمأنينة والأمان في النفوس والأوطان من أعظم البركات، وأجل النعم والهبات، فمن لم يشكر هذه النعمة بالإيمان والتقوى أبدله الله بالأمن خوفاً، وبالغنى فقراً، وبالبركة حرماناً ونقصاً. وقال عزوجل محذراً من الأمن من مكره، مع مخالفة أمره وانتهاك محارمه:{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ )أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ )أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 97 - 99] . أي: ما كان ينبغي لهم أن يأمنوا وهم مقيمون على معاصيه، جاحدون لنعمته، معرضون عن شريعته. فالأمن في الدنيا والآخرة إنما هو للمؤمنين، والمؤمنين وحدهم، أما أعداء الله من المشركين والملحدين، فكيف يأمنون وقد حاربوا الله؟ وكيف يأمنون وقد شاقوا الله، وخرجوا عن طاعته؟ وكيف يأمنون وقد استجلبوا غضب الله بمعصيته؟؟!! ولقد قرر هذه الحقيقة العظيمة، بكل وضوح وجزم، ابراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - حين حاجه قومه، وهددوه بغضب آلهتهم عليه، وأنها ستبطش به إن هو أصر على دعوته. فأجابهم - عليه الصلاة والسلام- إجابة الواثق بايمانه، العارف بربه، وواجههم بالحقيقة الدامغة، والحجة البالغة:{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَّوَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام: 80 - 82] . ومن خلال ما سبق يتبين لنا الارتباط الوثيق بين مصطلحي «الأمن والإيمان»، وتظهر لنا الصلة القوية بينهما، سواء من حيث الدلالة اللفظية، فإن الإيمان مأخوذ من الفعل الثلاثي «أمن» الذي هو أصل مصطلح «الأمن»، فأصلهما إذاً واحد، أو من حيث الدلالة المعنوية، فإن الأمن ثمرة للإيمان ونتيجة له، فإذا فقد الإيمان فلا أمان. ولما سئل الخليل بن أحمد: ما الإيمان؟ قال: هو الطمأنينة. ففسر الإيمان بالطمأنينة التي هي من لوازمه وثمراته. ويظهر هذا الترابط الوثيق أيضاً بين مصطلحي «السلم» و«الإسلام»، فإن العلاقة بينهما هي نفس العلاقة بين الأمن والإيمان، من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. وقد عبر القرآن الكريم عن الإسلام بلفظ السلم، مما يؤكد هذه العلاقة، ويدل على عمق الصلة بين هذين اللفظين، وذلك في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208] . فقد أمر الله عباده المؤمنين أن يدخلوا في الاسلام كله، وأن يأخذوا بجميع أحكامه وشرائعه، ويعملوا بجميع أوامره ونواهيه. والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضا واستقرار، لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال، سلام مع النفس والضمير، سلام مع العقل والمنطق، سلام مع الناس والأحياء، سلام مع الوجود كله ومع كل موجود، سلام يرف في حنايا السريرة، وسلام يظلل الحياة والمجتمع، سلام في الأرض وسلام في السماء. ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي، والتقدم الحضاري، والتنظيم الإداري، ومرافق التسلية، وأنواع الملاهي، وسائر مقومات الرقي المدني.

* عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالرياض

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved