Wednesday 7th January,200411422العددالاربعاء 15 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أبو عمر يوسف بن عبدالبر القرطبي الأندلسي الفقيه المحدث والعالم الأديب والشاعر الحكيم أبو عمر يوسف بن عبدالبر القرطبي الأندلسي الفقيه المحدث والعالم الأديب والشاعر الحكيم
بقلم الدكتور/ عبدالله بن سعد الرويشد

مترجمنا العلامة:
هو يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر بن عاصم النمري القرطبي، كنيته أبوعمر ويلقب بجمال الدين.
هذا وقد ولد أبوعمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر في اليوم الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة 368هـ ثمان وستين وثلاثمائة من الهجرة النبوية، وقد كان والده من الشعراء الكبار المبرزين في عالم الأدب شعراً ونثراً ولم يأخذ مترجمنا أبوعمر من والده شيئاً من العلم أو الأدب لأن والده قد مات ولم يبلغ ابنه سن التعليم فقد رعته عناية الله، فالعباقرة جامعتهم الأكواخ، فاليتم أنجب للزمان محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحقيقة التي تفرض نفسها هي أن الفقر واليتم أستاذان في الدنيا والدين، وقد نشأ أبوعمر رحمه الله في مدينة قرطبة وقد كانت يومئذ عاصمة الخلافة بالأندلس وعاصمة الدولة ومدينة العلم والحضارة والفكر والثقافة والشعر والأدب وشداته، فقد احتضنت فطاحل العلماء من كل فن وكان سكانها أصحاب عقيدة سلفية خالصة فقد أقام بها عدد كبير من التابعين وتابعي التابعين، وقد ذكر بعض المؤرخين أن عدداً من الصحابة الكرام قد طاب لهم المقام بها يدعون إلى الله ويبشرون بهذا الدين الإسلامي العظيم وبسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وقد سطع في مدينة قرطبة نجوم المعرفة من كل فن الذين لا شغل لهم إلا التبحر في شتى أنواع العلوم فازدهرت بها فنون الآداب والمعارف وأصبحت مركز الحضارة الإسلامية لكثرة علمائها واشتهار أهلها بالتمسك بالسنة، فصار عمل أهلها حجة في بلاد الأندلس فكانوا يحكمون بما جرى به علماء أهل قرطبة وكان الناس يشدون الرحال إليها لرواية الحديث الشريف ودراسة التوحيد والفقه والأدب والفلسفة ومختلف العلوم كالطب والهندسة والفلك وغيرها من العلوم والمعارف.
وقد امتاز الأندلسيون جميعاً - وخاصة أهل قرطبة - بالحرص على طلب العلم والتفاني في اقتناء الكتب، ومن ثم انتشرت المكتبات في سائر الأوساط وكثر الوراقون والنساخ وتنافس الناس في الحصول على نوادر المخطوطات، فأصبح العلماء عند أهل قرطبة مكان التبجيل والتعظيم والتكريم والاحترام والتقدير، يشار إليهم بالبنان ويؤخذ رأيهم في المهمات وهم المرجع في الحل والعقد لأنهم ورثة الأنبياء.
ففي هذا الأفق العلمي الزكي الجليل شب ونشأ وترعرع أبوعمر يوسف بن عبدالبر رحمه الله وفيه تفقه، وأخذ العلم من كثير من فطاحل العلماء وفحول المعرفة فلازمهم ودأب وجد في طلب العلم والتحصيل لا سيما في علوم التوحيد والفقه والحديث فقد تفنن فيهم وبرع براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس فأتقن علوم السنة والقراءة ضبطا وحفظا وفهما حتى حاز على لقب حافظ الأندلس بدون منازع، وكان ناصراً للسنة قامعاً للبدعة مستقل الفكر بعيداً عن الجمود ومن ثم كان يكره التقليد، فهو عالم متبحر مجدد بارع مجتهد في استنباط المسائل الفقهية والأحكام الشرعية التي يحار فيها العلماء الجهابذة الفحول الأعلام، ولم يغادر أبوعمر بلاد الأندلس ولكنه تنقل في أرجائها شرقاً وغرباً فسكن دانية وبلنسية وشاطبة وتولى قضاء لشبونة التي هي عاصمة البرتغال اليوم وكذلك تشترين أيام ملكها ابن الأفطس، أما إشبيلية فقد نزلها ولم يطب لها المقام بها نظراً لما قوبل به من أهلها من جفوة وتنكر فارتحل منها منشداً:


تنكر من كنا نُسرّ بقربه
وعاد زعافا بعدما كان سلْسلا
بليت بحمص والمقام ببلدة
طويلاً لعمري مخلق يورث البِلى
إذا هان مرء عند قوم أتاهم
ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا
ولم تضرب الأمثال إلا لعالم
وما عوقب الإنسان إلا ليعقلا

وقد كانت اشبيلية تسمى حمصا تشبيها بالمدينة المعروفة بحمص الشام المدفون بها سيف الله المسلول الصحابي الشجاع والبطل الهمام خالد بن الوليد رضي الله عنه.
وهكذا نرى أن الحافظ أبا عمر بن عبدالبر رحمه الله كان أديباً شاعراً يجهد الفحول والبلغاء في النثر والشعر، وقد ألف في ميدان الأدب كتابا يدل على مكانته السامية في هذا الميدان سماه (بهجة المجالس وأنس الجالس وشحذ الذهن والهاجس) ثلاثة مجلدات كبيرة جمع فيها نوادر أدبية وطرفا جميلة، ومن شعره يباهي بالعلم والحض على طلبه:


إذا فاخرت فافخر بالعلوم
ودع ما كان من عظم رميم
فكم أمسيت مطرحا بجهل
وعلمي ما حل بي بين النجوم
وكم من وزير سار نحوي
فلازمني ملازمة الغريم
وكم أقبلت متئدا مهابا
فقام إليّ من ملك عظيم
وركب سار في شرق وغرب
بذكري مثل عرف في نسيم

وقال في وصية لابنه يحضه على الاستقامة وتقوى الله في السر والعلن ويهون من شأن الدنيا ومتاعبها:


تجاف عن الدنيا وهون لقدرها
ووفّ سبيل الدِّين بالعروة الوثقى
وسارع بتقوى الله سرا وجهرة
فلا ذمة أقوى - هديت - من التقوى
ولا تنس شكر الله في كل نعمة
يمن بها فالشكر مستجلب النعمى
فدع عنك ما لا حظّ فيه لعاقل
فإن طريق الحق أبلج لا يخفى
وشحّ بأيام بقين قلائل
وعمر قصير لا يدوم ولا يبقى
ألم تر أن العمر يمضي موليا
فجدته تبلى ومدته تفنى؟!

وللعلامة يوسف بن عبدالبر أكثر من خمسين مؤلفا موسوعيا في الحديث والتوحيد والتفسير والتاريخ والأدب، وقد انتهى المطاف بأبي عمرو بن عبدالبر إلى مدينة شاطبة وبها أدركته الوفاة ليلة الجمعة آخر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة عن خمس وتسعين عاماً رحمه الله رحمة واسعة وأجزل مثوبته ونفع بعلومه المسلمين إن شاء الله.
وخير ما أختم به هذه الترجمة الزكية العطرة هذه القصيدة العصماء الرائعة الخالدة خلود الزمن والحقيقة والتاريخ؛ إذ هي عقد نفيس من اللؤلؤ والألماس فكلها حكم وعظات وعبر نتيجة تجربة ومعاناة الحياة، تخاطب العقل والوجدان والنفس والروح نعم قصيدة واقعية تتحدث عن الزمان وأهله وصروفه ومتاعبه ومحنه وإحنه ونكباته وآلامه وهمومه.
فأتركك يا أخي القارئ الكريم مع القصيدة وأترك القصيدة معك فستحدثك حديث الصادق الأمين من القلب إلى القلب؛ لأن ما خرج من القلب دخل في القلب وما خرج من اللسان فلن يتجاوز الآذان، فالعلامة ابن عبدالبر أديب العلماء وعالم الأدباء وهو الرائد الذي لا يكذب أهله فكل بيت حكمة خالدة وتجربة رائدة ونصيحة صادقة وهذه هي:


من ذا الذي قد نال راحة فكره
في عمره من عسره أو يسره
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى
أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
فيظل هذا ساخطاً في قله
ويظل هذا تاعبا في كثره
وعبوس وجه الدهر من أخلاقه
فاحذر مكائده وعاجل شره
فهو المنافق لا يزال مخادعاً
حتى يورط في حبائل مكره
عمّ البلاء لكل شمل فرقة
يرمي بها في يومه أو شهره
والجن مثل الانس يجري فيهمو
حكم القضاء بحلوه وبمره
فإذا المريد أتى ليخطف خطفة
جاء الشهاب بحرقه ويزجره
ونبي صدق لا يزال مكذَّباً
يُرمى بباطل قولهم وبسحره
ومحقق في دينه لم يخل من
ضدّ يواجهه بتهمة كفره
والعالم المفتي يظل منازعا
بالمشكلات لدى مجالس ذكره
والويل إن زلّ اللسان فلا يرى
أحداً يساعد في إقامة عذره
أو ما ترى الملك العزيز بجنده
رهن الهموم على جلالة قدره؟
فيسره خبر وفي أعقابه
خبر تضيق به جوانب قصره
ومؤازر السلطان أهل مخاوف
وإن استبد بعزه وبقهره
فلربما زلّت به قدم فلم
يرجع يساوي قلامة ظفره
فمثاله إلا كمثل سفينة
في البحر ترجف دائما من شره
إن أدخلت من مائه في جوفها
أدخلها وماءها في قعره
فلو استمال إلى القناعة واكتفى
بسداد عيشته ورثة طمره
وأخو العبادة دهر متنغص
يبغي التخلص من مخاوف قبره
وأخو التجارة حائر متفكر
مما يلاقي من خسارة سعره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة
الرجل العقيم كمينة في صدره
وكل قرين مضمر لقرينه
حسداً وحقداً في غناه وفقره
ولرُبَّ طالب راحة في نومه
جاءته أحلام فهام بأمره
والطفل من بطن امه يخرج إلى
غصص الفطام تروعه في صغره
والوحش يأتيه الردى في بَرّه
والحوت يأتي حتفه في بحره
ولربما تأتي السباع لميت
فاستخرجته من قرارة قبره
ولقد حسدت الطير في أوكارها
فوجدت منها ما يُصاد بوكره
كيف التلذذ في الحياة بعيشة
ما زال وهْو مروع في أسره
تالله لو عاش الفتى في أهله
ألفا من الأعوام مالك أمره
متلذذا معهم بكل لذيذة
متنعما بالعيش مدة عمره
لا يعتريه النقص في أحواله
كلا، ولا تجري الهموم بفكره
ما كان ذلك كله مما يفي
بنزول أول ليلة في قبره
كيف التخلص يا أخي مما ترى
صبراً على حلو القضاء ومره؟
ثم الصلاة على النبي وآله
معْ صحْبه والتابعين لأمره


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved