Wednesday 10th March,200411486العددالاربعاء 19 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
بين ابن مسعودٍ وأمِّ يعقوب
عبدالرحمن صالح العشماوي

روى الناس عن ابن مسعودٍ قوله: لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمِّصات، والمتفلّجات للحُسْن، والمغيِّرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، فجاءتْ فقالت: إنه بلغني أنك لعنتَ كَيْتَ وكيْت -وذكرتْ له ما قال - فقال: ومالي لا أَلْعَنُ مَنْ لعنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اليس هو في كتاب الله؟
فقالت: لقد قرأتُ ما بين اللَّوحين فما وجدْتُ فيه ما تقول. فقال ابن مسعود: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، أوَ ما قَرَأْتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }؟، قالت: بلى، قال: فإنَّه قد نهى عنه، قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه -تعني زوجته- قال: فاذهبي فانظُري، فذهبَتْ إلى زوجة ابن مسعودٍ رضي الله عنهما فنظرتْ فلم تر من حاجتها شيئاً، فقال ابن مسعود: لو كانت (أهلي) كذلك ما جامعتُها.
في هذا الخبر موقف مشرف لصحابي جليل، عالمٍ من علماء المسلمين، قارئ متقن من قرَّاء كتاب الله الكريم، راوٍ صادقٍ من رواة أحاديث سيد المرسلين، والمرأة من المسلمات الواعيات القارئات لكتاب الله، الحريصات -كما يدلُّ الخبر السابق- على معرفة الحقِّ لاتباعه.
موقفٌ مشرقٌ لقلوبٍ سليمة، بعيدةٍ عن الخَبَث وسوء الظن، تخفق بحب الحق وكلمته، وأتباعه ومناصرته.
موقف تجلَّى في حوارٍ هادفٍ قائم على مقارعة الحجة بالحجة، للوصول إلى المحجَّة، بعيداً عن الصَّخَب والضَّجَّة.
عبدالله بن مسعود، الذي أشاد به الرسول عليه الصلاة والسلام في أكثر من موقف، وكان وعاءً مُلئ عِلْماً وفقهاً، ومعرفة بكتاب الله مكّيِّه ومدنيّه،ناسخه ومنسوخه، مناسباته وأسباب نزوله، يخبر الناس بأحكام شرعية تتعلَّق بالنساء، مبلِّغاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعظاً مرشداً، محذِّراً من الوقوع فيما يجلب لصاحبته اللَّعنَ والإبعادَ من رحمة الله تعالى.
الواشمات: الوشم: أن يُغْرَزَ الجلد بإبرة ثم يحشى بكحلٍ أو غيره فيصبح لونه أزرق أو أخضر، وكان يعد زينةً مستحسنةً في النساء.
المتنمِّصات: النَّمْصُ، هو إزالة الشعر من الوجه لغير حاجة ظاهرة.
المتفلِّجات: الفلج: هو تفريج ما بين الثنايا والرباعيات من الأسنان.
وكل ذلك تغيير لخلق الله لا حاجة إليه، ولربما استقبحه كثير ممن رآه.
هنا يصل الخبر إلى امراة مسلمة من بني أسد، فيصيبها الذُّعْر لهول ما سمعت، ولربما كانت على شيءٍ مما ورد في الحديث، أو أنها كانت مع نساءٍ فيهنَّ شيء من ذلك، أو أنَّها أرادت أن تستوضح حقيقة ما نقله الناس عن ابن مسعود، فالمهم في ذلك كلِّه، أنها امراة ذات بصيرة ووعي، وذات معرفة بكتاب الله تعالى بدليل قولها لابن مسعود: لقد قرأتُ ما بين اللَّوحين فما وجدت فيه ما تقول، أي أنها قرأت المصحف كاملاً، وهذا دليلٌ على المستوى العلمي الذي تنطلق منه في حوارها مع ابن مسعود.
إنَّه المجتمع المسلم القائم على الوعي والبصيرة، والحرص على طاعة الله ورسوله، والوضوح المنبثق من الثقة المتبادلة بين جميع المسلمين.
وفي قول ابن مسعود لها: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، إيحاءٌ بحسن التعامُل، وحسن الظن بامراة مسلمة جاءت تستوضح وتناقش، ودليلٌ على المستوى الرَّاقي من التعامل بين أولئك القوم الذين تعلَّموا في مدرسة النبوَّة، وتربَّوا على يد أفضل خلق الله محمد عليه الصلاة والسلام.
ويكون الجواب حاسماً مقنعاً للمرأة من حيث الحكم الشرعي بعد أن أرشدها ابن مسعود إلى الآية الجامعة المانعة {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } فعند هذه الآية وقف نقاش أم يعقوب، وصدَّقت ماقال هذا العالم الصحابي الجليل، وبقي عندها شيء من حظِّ النفس البشرية، أو توجيهٌ أرادت أن تُسمعه ابن مسعود -رضي الله عنه-، ومَنْ يدري؟ ربما أنها قد سمعتْ قبل أن تأتي إليه من يقول لها: هذا ابن مسعود يروي هذا الحديث، ويحذِّر من هذه المخالفات، وأهله يقعون في ذلك داخل منزله، فأرادت أن تصل إلى الحقيقة بنفسها حتى تكون على بصيرة من أمرها، فقالت: فإني أرى أهلك يفعلونه.
إنه الوضوح الجميل، والصَّفاء الروحي الذي يجعل الحوار يجري بهذه الصورة البديعة، ولذلك لم يغضب ابن مسعود، وإنما وجَّهها إلى ما تريد برضا نفسٍ واطمئنان قلب: فاذهبي فانظري.
اذهبي الآن مباشرة لتري أهلي، إنْ كانوا على شيء مما تظنين، كلام الواثق من أهله، الحريص على ألاَّ يبقى في نفس أم يعقوب شيء من ريبةٍ أوشكٍّ يسبِّب لها إثماً، ويكسبها ذنبا. لكأني بها بعد أن نظرت إلى زوجة ابن مسعود تستغفر الله مما قالت فيها، ومما ظنَّتْ بها، لقد خرجت وهي مقتنعة -كلَّ الاقتناع- بأنها جاءت إلى بيتٍ مسلم يعرف ما له وما عليه؟
وأراد ابن مسعود أن يؤكد لكل من يطّلع على هذه القصة من الناس على مدى الأزمان أنه وقَّاف عند شرع الله مهما كان حبُّه لزوجته، فقال: لو كانت كذلك - أي فيها شيء من وشم أو نَمصٍ أو تفلُّجٍ- لما كان نصيبها مني إلا الهجر، حتى تقلع عما هي عليه.
صورةٌ مضيئة، تؤكد لنا ما تملكه أمتنا من عوامل القوَّة التي يمكن أن تنهض بها من كبوتها في هذا العصر.
إشارة


لنا همة الإيمان بالله، عندها
ينافس ماتروي الأساطير واقع


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved