Saturday 27th March,200411503العددالسبت 6 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

رحم الله الشيخ أحمد ياسين رحم الله الشيخ أحمد ياسين
عبدالعزيز السماري

انتقل الشيخ أحمد ياسين إلى رحمة الله بعد أن نثرت صواريخ العدو أشلاء جسده المشلول على الأرض العربية المحتلة، ذهب بعد أن كانت حياته درساً للإنسان العربي، ومثالاً على قوة العزيمة والإيمان بالمبدأ الذي لا يمكن أن يتبدل مهما طال أمد المعركة، رحل بعد أن كشف للمجتمع العربي سرَّ قوته التاريخية وأحد أهم أسرار انتصاراته في الماضي، ومكمن العلة الدائمة لهزيمته في الحاضر، فالعرب ينتصرون إذا كان سلاحهم هو الإيمان بالله والشهادة في سبيل قضاياهم المقدسة، لكنهم يتلقون الهزيمة إذا رأوا أن (التنازل) يكون بديلاً للنصر، وأن الخنوع ثمناً للسلام، وأن الاتفاقيات الورقية هي الطريق لتحرير الأرض.
لقد كان استشهاد الشيخ الجليل وما رافقه من احتفالية شعبية ورسمية وثقافية لنهج المقاومة والجهاد بمثابة الإعلان الأول عن انتصار الروح والإيمان على دعاة العقلانية المشوهة، فالعربي كائن يستمد قوته من روحه وإيمانه بمبادئه الدينية، بينما برهنت الأحداث المتعاقبة في العصر الحديث أن ما يُرفع من مبادئ وشعارات إصلاحية تذوب إذا طُرحت من خلال وجهة نظر عقلانية، فالعقلانية العربية لها خصوصية في حياة العربي في الماضي والحاضر، فهي لم يحدث وان أصبحت ثقافة جماهيرية، ولم يكن لها وجود على أرض الواقع إلا من اجل كمال الوجاهة النخبوية،التي يصل من خلالها العقلاني (العربي) إلى أوج إرضاء كبريائه، وإلى تحقيق رغباته الشخصية، وتلميع شخصيته الاجتماعية.. في عوالم الأضواء.
فقد كانت صفة الموروث الروحي هي أن لا يحيد عن ثوابته التي لا يمكن للزمن أن يوهنها أو يعريها، وقد ظلت لا تؤمن بالمتغير، ولا تقفز على ثابت يستمد جذوره من الماضي، بل تحول الثابت إلي (روح) يستمد منها العربي وقود مقاومته وجهاده كما حدث في سيرة الشيخ أحمد ياسين، فقد كانت تلك الروح شاهداً على سقوط أساليب العقلانية العربية، وأساليبها الملتوية في الواقع، لتصبح مع مرور الوقت أكثر مقاومة للتغيير، لا تستجيب لتغير العلاقات والمفاهيم، وترفض الميكافيلية، وتكفر بالبراغماتية، وتعلن مراراً أن الدبلوماسية تعني الاستسلام وقابلية الهزيمة أمام القوة المحتلة، فصارت مع مرور الزمن في وضع لا يسمح على الإطلاق بالحوار مع واقع متغير، أو التكامل مع واقع مطابق، والزعامة الروحية المؤمنة حتماً تفقد بريقها وتأثيرها الجماعي إذا ظهرت علامات الضعف والمراوغة على مواقفها تجاه قضايا الأمة أو المجتمع الضرورية، وقد لا ينفع تلميع صورتها إعلامياً، فوهج التأثير يتبخر بسبب التلاعب بعقول الأغلبية الصامتة..، والشيخ استطاع بمواقفه الوطنية العفوية الصادقة وقدرته على التواصل مع الآخرين أن يعيد للزعامة الروحية مكانتها، وان يكسب مشاعر الثقة من جميع التيارات، وأن يرفض مواقف الإقصاء والإبعاد، والتي يجيد لعبتها الكثير من الرموز الثقافية، والزعامات والاتجاهات الوطنية والإسلامية..
والحالة العربية إن حدث وغلب على واقعها مجرد العقل، تصبح من أكثر الثقافات التي مآلها الفشل الذريع، فتخنقها إشكاليات التحديث ونداءات الاستجابة الروحية والمادية للقوانين الجديدة التي تفرضها ضرورة التطور، وتقتلها في المهد الصراعات الفردية والمطامع الشخصية والنزعات العقلانية المتناقضة في الجوهر. والمقولة العقلانية التي تتأسس على جدلية أن المستقبل العربي لا يمكن أن ينهض إلا بالوصول إلي حافات العقد المستحكمة في الموروث الروحي، ثم تفتيتها بفتح ممرات جديدة عمادها الابتكار والاكتشاف والإصلاح وساحتها التجريب وضوءها العقلانية، وذلك لخلخلة المفاهيم البائدة القائمة علي الدم والطائفة، وإحلال رابطة الدولة والمدينة، وإزالة حق الامتياز القانوني بفتح المجال رحبا أمام الكفاءة الفردية، واستبدال المفهوم القبلي لتركيبة المجتمع بمفهوم المواطنة سقطت بامتياز برغم من انتشار صيغها في السجلات الرسمية العربية، فالواقع العربي يحكي بمرارة زيف هذه الصيغ والعبارات المستهلكة في سوق العقلانية العربية.
فالإنسان في العصر العربي الحديث بدأ مؤخراً رحلة البحث عن الخلاص، وصار يلجأ إلى الروح والإيمان، وذلك خوفاً من ظاهرة النكوص التاريخية، وهرباً من مؤامرة التلاعب بمفردات لا يفقه سرَّ تلونها وانقلاب مواقفها العجيب...! قد أصاب العقل العربي منذ عقود، بمعطياته وبنتائج أعماله على أرض الواقع الجسد المعافى بالشلل بسبب انتهازية العقلانية العربية، بينما أعاد إيمان وروح الشيخ أحمد ياسين في جسده المشلول بعض من الحياة المفقودة إلى الجسد العربي، والحديث ليس هنا لغرض إدانة العقلانية الغربية، والتي انتصرت بظهور المنهج العلمي كوسيلة لفهم الطبيعة والسيطرة عليها، ولكن للدعوة إلى دراسة مدى انحراف ما يطلق عليه بالعقلانية العربية عن ذلك المنهج، فالعقل في الثقافة العربية لم يولد بعد، فهو جنين لم يزل في رحم الأمة منذ مئات القرون.
بعض دعاة العقلانية والتحديث يرون أن هناك بالفعل عقل عربي قادر على التغيير الإيجابي في المعركة الحالية مع أعداء الأمة والوطن، فالمتحدثون باسم العقلانية والحداثة يملأون الدنيا ويشغلون الناس في قنوات الإعلام، يتحدثون بكثرة مملة أحياناً عن الحضارة ومقوماتها، فيشخصون حالة التخلف وحال الوطن، ويرسمون بكلماتهم الرنانة المستقبل الذهبي للأجيال الجديدة.. كما يجيد البعض الآخر في مهمة تحديد الصعوبات التي تقف حجرات عثرة في طريق المجد الحضاري. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يشاركون في إدارة الندوات الحوارات السياسية والثقافية والعلمية والإعلامية. لكنهم يا سيدي في الأزمات يظهرون متناقضين في اتجاهاتهم بصورة تثير الشفقة أحياناً، ولذا يبقى تأثيرهم محدودا، ويظل لسان الحال في الشارع العربي عاجزاً عن تفسير تذبذب مواقفهم تجاه القضايا الحاسمة، والفاقدة لأدنى قدرة على تحريك أعضاء ذلك الجسد الكبير، والذي استطاعت سيرة روح الزعيم المشلول جسدياً بمواقفها الواضحة إعادة الحياة إلى أعضاء الجسد الميت عقلانياً.. منذ قرون عديدة..! رحم الله الشيخ أحمد ياسين وأسكنه فسيح جناته.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved