Saturday 27th March,200411503العددالسبت 6 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دروس تقدمها لكم ريما دروس تقدمها لكم ريما

ريما طفلة صغيرة حلوة القسمات، يظهر في وجهها علامات البراءة والذكاء، تاهت من أهلها في أحد المتنزهات البرية، ولم يعثر عليها إلا بعد اثنتي عشرة ساعة، وهي نائمة تحت إحدى العبارات المائية، في جو بارد وأرضية رطبة وليل حالك السواد، وقد نشرت جريدة الجزيرة معاناتها في عددها الصادر يوم الخميس الموافق 14-12-1424هـ ومع أمنياتي الحارة ألا تترك هذه المعاناة أثراً سيئاً في حياتها المستقبلية، إلا أنني أرى من وجهة نظري الخاصة والخاصة جداً، أن من مرت بمثل تجربتها هذه، ستعاني معاناة مؤلمة من هذه التجربة في سنواتها القادمة، حيث لا بد أن تترك أثراً في نفسها لن تمحوه الأيام والسنين، إن لم تجد حضناً دافئاً يحتويها، ويداً حانياً تطبطب عليها، ومما يؤسف له أن هذا الأمر مما يغفل عنه الكثير في مجتمعاتنا الشرقية، الذي هو إهمال أو إغفال الجانب النفسي في حل المشكلات والمعضلات والتجارب القاسية، اعتقاداً منهم أن الشخص ما دامت تظهر عليه دلائل الصحة والعافية، فلا داعي من فتح الجروح من جديد وتقليب المواجع، فينهون المشكلة بمجرد تحاشي الحديث عنها، أما عند من تعرض للمشكلة فقد تكون قد بدأت لديه، خاصة الطفل الذي من الصعوبة أن ينسى ما مر به في حياته من تجارب مؤلمة، فهو يختزنها في عقله الباطن، ثم يبدأ في البناء عليها بقصور من رمال، تنهدّ على رأسه في يوم من الأيام، فمثلاً نجد الطفل الذي مر بتجربة مؤلمة عند زيارته لطبيب الأسنان، يكره في الغالب زيارة طبيب الأسنان عندما يكبر، حتى وإن عاث السوس فساداً في أسنانه، وكذلك الحال إذا خاف الطفل من الحقن الطبية، فإنها تصبح كالبعبع بالنسبة له حتى عندما يكبر، وفي هذا المقام أذكر شاباً في المرحلة الجامعية، ذهب لعيادة طبيب لأمر ما، فلما أراد الطبيب معرفة فصيلة دمه، ورأى قطرة دم تخرج من إصبعه، خر من طوله مغشياً عليه في العيادة، فكيف سيكون حاله لو أنه طلب منه التبرع بالدم، كحال الآخر الذي تجاوز الثلاثين وهو لا يزال يبحث عن واسطة، تعفيه من شرط التبرع بالدم حتى يتمكن من استخراج رخصة قيادة، وأعرف رجلا يرفض رفضاً باتاً الحقن الطبية مهما كانت الظروف، لأنه عندما كان صغيراً انكسرت حقنة طبية في ذراعه بسبب بكائه وكثرة حركته، التي أتت من استخدام العنف معه وعدم تهيئته نفسياً عند أخذه للحقنة، وأيضاً بسبب تعييره المستمر بهذا الموقف والضحك عليه من كل أفراد أسرته، بل وأعرف آخر - أسأل الله أن يشفيه - أصيب وهو صغير، بصدمة نفسية بسبب تلطخ وجهه وملابسه بالدماء النازفة بغزارة من الذبيحة، ولا زال تأثير هذه الصدمة مصاحباً له في حياته حتى بعد أن بلغ مبلغ الرجال، ولا أظن أنني سآتي بجديد حينما أشير إلى أن الغالب على الشخص الذي مر بطفولة معذبة، تعرض فيها لشتى أنواع الضرب والإهانات والتنكيل والتعذيب من محيطه الداخلي أو الخارجي، نجد أنه عندما يكبر يكون حاقداً على الجميع، بل وقد يزرع حقده وعقده التي يحملها في أولاده، وأذكر انني قرأت معاناة لأحدهم يصف معاناته مع والده، حيث يصفه بأنه شخص معقد يخالف الناس ذو روح انهزامية، حيث يخشى المواجهة، يفتقد إلى الثقة بالنفس، يصدق كل ما يقال له في حق أبنائه، فيحملهم الخطأ دائماً مهما كانت مبرراتهم، بل ويمنعهم من الخروج إلا للضرورة القصوى بعد إلحاح وبكاء في بعض الأحيان، وأنه لو لم يكن ذكراً لما حلم بأن يصل في دراسته إلى المرحلة الجامعية، ولكان بقي في المنزل مع بقية أخواته، ويضيف أن والده أصبح مجالاً لتندر أقربائنا وجيراننا بشخصيته الغريبة والعجيبة، وكان هذا الشاب وهو يصف معاناته مع والده، يؤكد أن شخصية والده أثرت على كل من في البيت، حيث صار يفضل الوحدة على مخالطة الناس، حتى وجد نفسه بلا أصدقاء أو معارف، وأن أخواته أصبحن ينتظرن أي رجل يطرق باب بيتهم خاطباً، حتى يخرجن من السجن الذي وضعهن والدهن فيه، فمثل هذه الشخصية التي هي شخصية الأب لا يمكن أن تكون قد نشأت من العدم، بل لا بد أن تكون قد ولدت وترعرعت في الصغر، فأثرت على صاحبها ومن حوله في الكبر.
ومجدداً أكرر تأسفي على حالنا في هذا العصر المتطور، الذي لا نزال نرى فيه أن زيارة الطبيب النفسي تعد وصمة عار لا تمحى من جبين من تجرأ وفعلها، وكأن النفس لا تمرض كما يمرض الجسد، فإذا ما تكالبت علينا الأمراض والأسقام بحثنا عن العلاج ولو كان بأغلى الأثمان، والعلاج كان بين أيدينا بأبخسها، ولكن تغافلنا عنه وتشاغلنا بمبررات واهية، أدى إلى أن نصيب أنفسنا ومن حولنا بكوارث لها أول وليس لها آخر، خاصة من حولنا من الأطفال، الذين يتعرضون في حياتهم اليومية لمواقف وأحداث، تترك أثراً واضحاً في شخصياتهم، فمثلاً خوف الطفل من المدرسة، أو خوفه المفرط من الأطفال الذين في مثل سنه، أو خجله الزائد عن الحد، أو بكاؤه الدائم بلا أدنى سبب، أو عدوانيته الواضحة وقسوته التي لا تتناسب مع سنه، أو حركته الزائدة أو العكس، أو خوفه من القطط أو الحيوانات والطيور الأليفة، أو خوفه المبالغ فيه من الأماكن المرتفعة، أو خوفه من النوم في الظلام أو وحده أو تبوله اللاإرادي أو التأتأة في الكلام، كلها مشاكل نفسية بالإمكان علاجها بجهد أقل عند المختصين والطفل لا يزال صغيراً، ولكن عندما يكبر يكون من الصعب التخلص منها أو من بعضها، فيكون الخيار الأسهل بالنسبة له هو رمي التهمة عن نفسه، وذلك بتحميل من حوله سبب معاناته بالكامل، والشيء بالشيء يذكر، أذكر أن فتاة سألت طبيباً عبر أحد البرامج الإذاعية عن مشكلة نفسية تعاني منها، وكان يفوح من سؤالها مدى السخط والغضب على والديها اللذين كانوا في نظرها السبب في تفاقم مشكلتها النفسية، لعدم بذلهم الجهد الكافي لمعالجتها وهي صغيرة.
وما يدعو للعجب أننا نحب أن نقلد المجتمعات الغربية في السلبيات، ونغض الطرف عمّا هو إيجابي لديهم، فهم لا يتورعون عن الذهاب إلى الطبيب النفسي حتى في الأمور البسيطة والتافهة في نظرنا، بل ويذهبون إلى الطبيب النفسي وكأنهم ذاهبون إلى حفلة جهاراً نهاراً، فهم عرف عنهم حسن تعاملهم مع الحالات النفسية، فالوالدان على سبيل المثال يحرصان على التعامل مع الطبيب، في علاج أو في تفادي أطفالهما صدمة طلاقهما، فهل نحن نفعل ذلك؟! بل ويعرض نفسه على الطبيب النفسي من تعرض منهما لصدمة الانفصال، وكذلك الوالدان اللذان تعرض طفلهما لحالة اعتداء جنسي، يسعون مباشرة لعلاجه من اثر هذا العمل الشنيع، أما نحن فنحرص بين وقت وآخر على تعييره وتحطيمه بتذكيره بما تعرض له، ونلومه على عدم دفاعه عن نفسه، وكأن ما حصل كان برغبته واختياره، بل وقد نحرص على عدم خروجه من المنزل إذا كان ذكراً، بل وقد نمنعه من مقابلة الضيوف حتى لا نفتح باباً للحديث عن ما تعرض له، أو أن نرى في أعينهم نظرة العطف تجاهه، فينشأ وهذه الحادثة المؤلمة تحرقه بنارها، وكلما أراد أن يطفئها بماء الأمل بغد أفضل، أوقدها من حوله بحطب ألسنتهم، والخلاصة أن الاستشارات النفسية الطبية سوقها رائج في الغرب بائر في الشرق، وكان الله في عوننا على أنفسنا، في هذا الزمن الذي كثرت فيه الأمراض والعلل النفسية.
عودة إلى الماضي
قبل سنوات طويلة كان أحدهم يقود سيارته، فتعرض لحادث مروري خرج منه سالماً، إلا أنه من يومها إلى الآن وهو يرفض قيادة السيارة، بل ويفضل المشي على قدميه مسافات طويلة إن لم يجد أحداً يوصله على أن يقود سيارة، وآخر كبير في السن في إحدى القرى ركب مع أحد أبنائه فتعرضوا لحادث مروري خفيف وبلا إصابات، إلا أنه أصبح من يومها يرفض ركوب السيارة، واستبدلها بحمار أعزكم الله، حتى صار أشهر من علم في قريته.

علي بن زيد القرون / حوطة بني تميم


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved