لا يشير كثير من الكتاب والمتحدثين العرب، الذين يحتلون أمكنة بارزة في وسائل الاعلام المختلفة، إلى الدين باعتباره عاملاً مهماً في اتخاذ القرارات السياسية من قبل الساسة الأمريكيين، وعدم اشارتهم قد يكون ناشئاً عن عدم اكتراث بتقصي الحقائق التاريخية لادراك أبعادها, أو لفكرة سيطرت على عقولهم حتى تخيلوا أن دولة علمانية من الناحية الرسمية لا يمكن أن يكون الدين مؤثراً على ما تتخذه من قرارات، وقد يكون عدم اشارة هؤلاء الكتاب والمتحدثين إلى الدين تجاهلاً منهم لهذا العامل وإن كانوا يعلمون وجوده وتأثيره، فإن كانوا لا يدرون فتلك مصيبة، وإن كانوا يدرون ويتجاهلون فالمصيبة أعظم.
لقد كان من أبرز ما ذكره الأستاذ منير العكش في كتابه (حق التضحية بالآخر)(1) ان المستعمرين الأوائل لأمريكا من الأوروبيين عندما وطئت أقدامهم تلك القارة كانوا يتبنون عقيدة دينية صهيونية الملامح والرؤى، ولذلك سموا البلاد التي استعمروها: (أرض الميعاد) و(صهيون)، و(اسرائيل الله الجديدة) بل إن الحاخام المؤرخ لي ليفنجر قال:
انهم كانوا أكثر يهودية من اليهود، وإن يهوديتهم هي التي أرست الثوابت الخمسة التي رافقت التاريخ الأمريكي في كل محطاته, وهي المعنى الإسرائيلي لأمريكا، وعقيدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي، والدور الخلاصي للعالم، وقدرية التوسع غير النهائي، وحق التضحية بالآخر.
ومن يتابع تصريحات الزعماء الأمريكيين، وخاصة الذين يحكمون أمريكا الآن، ويتأمل تصرفاتهم تجاه دول العالم وشعوبه يجد أن هذه التصرفات وتلك التصريحات تنطلق مع الثوابت الخمسة المشار إليها تمام الانطباق.
ولعل من أوضح الأدلة على تأثير العالم الديني في قرارات القيادات الأمريكية ان الرئيس السابق كلينتون, وهو رجل لا يظن المرء أنه يولي أهمية كبيرة للدين قال في احدى زياراته لفلسطين المحتلة أمام أقطاب الكيان الصهيوني: إن الكاهن الذي رباني قال لي موصياً: إذا تخليت عن اسرائيل فسيغضب منك الرب، وهو الذي كشف لي الحجاب عن ارادة الله التي تقضي بأن تكون اسرائيل - كما في العهد القديم - لشعب إسرائيل إلى الأبد، وإني قطعت لكاهني عهداً وميثاقاً بأن ارادة الله يجب أن تكون ارادتنا(2).
ومن المرجح أن البعض ما زال يذكر أن من قال الكلام السابق قد دعي - بعد انتهاء رئاسته - إلى مؤتمر في جدة ليلقي محاضرة دفع له ثمنها مال كثير، ثم انتقل من تلك المدينة إلى فلسطين المحتلة ليتبرع بأكثر مما دفعه إليه أرباب الشيم العالية والقيم الرفيعة لمؤسسات صهيونية هناك، وما كان لأريحية ذوي تلك الشيم وهذه القيم إلا أن تواصل الاحتفاء به، وذلك بدعوته مرة أخرى ليتعلمها ما لم تعلم عن المجتمع السعودي وكيفية الارتقاء به.
بعد هذه المقدمة الموجزة.. ماذا عن كتاب الأستاذ محمد السماك؟
الأستاذ السماك من المهتمين بالموضوع الذي كتب عنه, فقد سبق أن نشر كتاباً عنوانه (الصهيونية المسيحية)، مبيناً فيه تجذر هذه العقيدة في نفوس كثير من قادة أمريكا عبر تاريخها, وهو كتاب جيد في اسلوبه وعرضه ومحتواه (3). ومن الواضح أنه رأى فائدة مواصلة الحديث عن هذا الموضوع من زاوية محددة فأصدر الكتاب الذي تتناوله هذه القراءة، وهو الدين في القرار الأمريكي.
صدر الكتاب المتحدث عنه من دار النفائس في بيروت عام 1424هـ ويتألف من 108 صفحات صغيرة الحجم مشتملة على تقديم بقلم ناشره الأستاذ أحمد عرموش، فمقدمة لمؤلفه الأستاذ محمد السماك، ثم يأتي الحديث عما أراد المؤلف الكريم الحديث عنه متناولاً موضوعات متعددة تلتقي في الموضوع الرئيسي الذي هو الهدف من تأليف الكتاب.
ومن بين ما ورد في تقديم الأستاذ عرموش الإشارة إلى سيطرة اليهود على اعلام الولايات المتحدة واقتصادها - وهذا معروف لدى الكثيرين - واعتقاد بعض الساسة الأمريكيين أن ارضاء الصهاينة وسيلة للوصول إلى المناصب العليا في البلاد، والإشارة إلى أن ابناءها أصبحوا يدفعون إلى القيام بحروب تخدم الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى كما حدث في الحرب التي شنتها الإدارة الأمريكية على العراق.
أما مقدمة المؤلف الأستاذ السماك، فمما ورد فيها قوله: إن كثيرا من المفكرين المهتمين بالشأن السياسي العام لم يأخذوا أدبيات الحركة الأصولية الانجليزية الأمريكية، التي تطلق على نفسها اسم الصهيونية المسيحية، مأخذاً جدياً إلى أن تولي الرئاسة جورج بوش الابن،الذي استلهم- وما زال يستلهم - مواقفه من ايمانه بتلك الحركة.
واختتم تلك المقدمة بقوله: (إن العلاقات العربية - الأمريكية علاقات مريضة، وقد اشتد هذا المرض بعد عملية نيويورك وواشنطن الارهابية وبعد الحرب على العراق ولأنه لا مصلحة للعالمين العربي والإسلامي في استعداء أمريكا، أو افساح المجال أمام اسرائيل للاستفراد بصداقتها، ومن ثم تأليبها ضد قضايانا ومصالحنا، فإن من الحكمة تشخيص المرض ومعالجته, وأملي أن يسهم هذا الكتاب في عملية التشخيص بهدف المعالجة وليس الاستسلام للمرض.
أما كاتب هذه السطور فيأمل - هو الآخر - أن يتمكن من امداد القارئ الكريم بعرض ما أورده المؤلف مؤملاً أن يكون مساهمة في تشخيص مرض العلاقات المذكورة.
**********
الهوامش:
1- سبق أن نشر كاتب هذه السطور قراءة لهذا الكتاب نشرت في هذه الصحيفة على ثلاث حلقات أسبوعية ابتداء من 1424/1/7هـ.
2- المرجع نفسه، ص ص 150- 151.
3- نشر كاتب هذه السطور قراءة له نشرت في هذه الصحيفة على ثلاث حلقات أسبوعية ابتداء من 1424/5/7هـ.
4- عنيت هذه الدار بنشر مثل الكتاب, فمما نشرته - اضافة إلى الصهيونية المسيحية - حكومة العالم الخفية، وبروتوكولات حكماء صهيون، ومن اليهودية إلى الصهيونية.
|