Friday 25th June,200411593العددالجمعة 7 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الثقافية"

قصة قصيرة قصة قصيرة
الانتحار اللاإرادي
بقلم شيخة الحربي

الليل قيثارة أحزاني، بل صدى أنيني، وتعمق آلامي في أعماقي في جوارحي أنا ابن الرابعة عشرة تتملكني الأحزان، وأنا أنظر إلى إخوتي وأبناء عمومتي يلعبون ويلهون أحاول كسر الخوف في نفسي، وأقترب منهم رويدا رويدا لينظر إلي أخي... يقترب مني... يكلمني بغضب ماذا تريد؟ أريد أن ألعب معكم قليلا.. ابتعد عنا نحن لا نرغب في اللعب معك... لماذا أنا أخوكم؟ أمي ستغضب منا إذا لعبنا معك، وهي تقول أنك مجنون وعنيف وسوف تؤذينا... ليس حقيقيا هذا الكلام أنا فقط أريد أن ألعب معكم ليس إلا، ولن أؤذيكم, أردت أن أكمل كلامي معهم، ولكن زوجة أبي أخذت تصرخ عليّ، أيها الولد الفاشل تعال هنا: لماذا أنت هناك... تعال بسرعة, وذهبت إليها مسرعا, مسكتني من أذني وقالت: أيها العنيد ألم أطلب منك أن تبقى هنا؟ أردت أن ألعب قليلا؟ لن تلعب مع أحد, أنت هنا فقط تسمع كلامي، وتنفذ أوامري أيها البليد, خذ هذه القمامة وألق بها خارجا في المكان المخصص لها... ركضت خارجا تنفيذا لأمرها والخوف يعصف بي, رجعت إلى المنزل وجلست وحيدا في المكان الذي اختارته لي، وأنا أنتظر متى تطلبني مرة أخرى.
أخذت تدور في رأسي أسئلة عن ماهية الطفولة، وهل الطفولة لناس معينين عن ناس؟ وهل إخوتي وأبناء عمومتي يحق لهم أن يكونوا أطفالا؟ وألا أستحق هذه الطفولة؟ لماذا هذه المرأة تسرق طفولتي وتذلني؟، لماذا لا أحس بكياني وإلى متى أعيش هكذا، وأستسلم للموقف القص والتعب يحاصرني؟ وأخذت في البكاء إلى أن تملكني الوهن, وفجأة أفقت على صوت والدي، وأنا أرى إخوتي وأبناء عمومتي يلتفون حوله، ويأخذون ما جلبه لهم من حلوى أتمنى أن يحذفوا بقطعة حلوى، فأنا أحبها نعم، هاهو قادم نحوي يآه ولكنه تعداني, صرخت بأعلى صوتي أبي، ولما التفت إلي قال: أنت هنا؟ وماذا تريد؟ أحسست بغصة في حلقي وأنا أتلعثم: ألم.. ألم تجلب لي حلوى.. مثل إخوتي؟ فقال: آه لقد نسيتك, ثم غادر كأنني لست موجودا, حتى نظراته إلي كانت فارغة من العاطفة, أحسست بغصة في حلقي وبرغبة في البكاء, ولذت بالصمت المؤلم وذهبت إلى ملجئي الذي جعلوه لي سكنا, وتكورت على نفسي وغفوت لا أعلم كم من الوقت نمت, ولكني استيقظت على ارتفاع صوتها: قم أيها البليد لماذا ابتليت بك؟ أغرب عن وجهي.. وتغادر...
أخذت أفرك عيني, وأبحث عن لبس لأرتديه مسرعا, وتمسك بي كخادم عجوز وتأخذني على جذب لتعطيني ما أسد به رمقي, وخرجت راكضا خوفا من غضب والدي، وأخذ ينهرني كالعادة على تأخري.. هيا يا بليد الاحساس إلى متى تظل مع هؤلاء الأطفال؟ هكذا يبدأ يومي بشجار.. وصياح.. وصراخ.. فألوذ بالصمت فقط، كان الصمت ملاذي الوحيد مع دموع متحجرة.. وغصة تخنق حلقي, دخلت إلى المدرسة أنظر إلى التلاميذ كنت الكبير بينهم، ومازلت في السادسة الابتدائي, ولكن ليس ذنبي إنه ذنبهم هم جعلوني هكذا... هم جعلوني بليد الإحساس هم.. وهم.. وهم, أخذت أفكر وبصوت مسموع وبتمرد غير اعتيادي: سأهرب, نظر إلي المدرس، وهو متفاجئ ماذا قلت؟ نظرت إليه مندهشا من سؤاله يا ترى عماذا يسأل؟ دعاني المرشد الطلابي, وذهبت إليه, قال لي: لماذا ستهرب؟ نظرت إليه متفاجئا ومن قال إني سأهرب؟ قال: سمعك مدرسك تذكر ذلك, قلت: آه ولكني لم أعنِ الهروب في المدرسة, بل الهروب من المنزل نظر إلي وقال: أتهرب من أسرتك؟ قلت: نعم سأهرب من أسرتي ومن زوجة أبي بالذات, هل تقسو عليك زوجة أبيك؟ قلت: نعم لهذا أريد أن أهرب, قال لي: ولكن الهروب ضعف، وأنت شاب قوي فكافح واجتهد بالجد تنجح، ولكن لاتيأس، وقاوم وأكمل دراستك بها تنتصر عليها، وتنتصر على ضعفك إن شاء الله, اذهب الآن الله يساعدك ابتسمت بألم.. ما أسهل الكلام ولكني سأحاول أن أنجح قلت ذلك في نفسي، وأنا خارج من غرفته.
تمرالأيام قاسية علي ويتغلغل في أعماقي فراغ رهيب حتى الآلام لم أعد أحس بها، بل أتلذذ بها، وأستسيغها حتى صار الألم مني، فهو يجعلني أقوى, سأنجح لأنني أصبحت قويا حتى على الألم والعذاب.
قد نجحت هذه السنة أردت أن أخبر والدي بذلك, وفجأة سمعته يصرخ على شخص ما, تجمدت وكأني أخذت أنصت، وكان والدي يقول: لا لن أسمح لك برؤية عابد, ويجيبه الصوت الآخر: ولكني خاله، ومن حقي أن أسأل عنه وأسلم عليه, صرخ والدي قائلاً: كفى لن تراه، ولن أسمح له أن يراكم ولن يرى أمه، لقد استطعت كل هذه المدة أن أجعله ينساكم بصعوبة.. وسأجعله ينساكم طول العمر, رد عليه قائلاً: حرام عليك تحرمه من أمه خاف الله يا أخي, أخذ أبي يصرخ به: اخرج من داري.. اخرج, فتسللت إلى الخارج وانتظرت الرجل الذي فهمت من الحوار أنه خالي, وإذا به يخرج وهو غاضب فقلت له: من هنا يا خالي.. من هنا, دهش مني خالي، ولكنه عرفني فأخذني بأحضانه يضمني ويقبلني.. ودفعته بعيدا عن المنزل، وتكلمنا معا في أمور عدة وسألته عن والدتي هل حقا تخلت عني, سكت خالي لحظات وقال: أنا لا أعلم ماذا أخبرك والدك, كانت المشاكل بين أمك وأبيك بسبب عدم اقتناعهما ببعض فقط، فلقد تزوجا لإرضاء والديهما لم يعيشا يوما واحدا بدون مشاكل, وكانت فرصة أبيك عندما توفي والده فتزوج بالمرأة التي يرغب بها، وأرسل أختي لنا بورقة طلاقها, وتمسك بك، وحاولنا إقناعه بأن تبقى معنا، لكنه رفض وأنت كنت شديد التعلق به، فلم نستطع أن نأخذك منه, أما أمك يا بني لم تفقد يوما الأمل، فقد ظلت تأتي عدة سنين لزيارتك، ولكن والدك لم يسمح لها برؤيتك, وهذه السنة ترجتني أمك أن أسأل عنك وأتيت لرؤيتك، ولأسأل عنك، وكما سمعت لم يوافق والدك حتى أن أراك, ولكن قدرة الله فوق الجميع فلولا الله ثم سماعك لحوارنا لما كنت رأيتك قط, فقلت: آه يا لقسوة والدي لقد حرمني أمي وحرم أمي مني، ماذا أفعل الآن, أعطاني خالي رقم هاتف وقال لي: جد طريقة للاتصال بنا, ثم ضمني إليه وذهب, رجعت إلى المنزل وكلي خوف وفرح حتى إنني أخذت أصرخ على غير عادتي، لقد نجحت لقد نجحت نظر إلي والدي وقال: أتعلم الآن كم عمرك؟ قلت: نعم في الثامنة عشرة, قال: يعني أنه من المفروض أنك ناجح من الثانوية، وليس من الكفاءة أغرب عن وجهي, أحسست بالإحباط والإهانة بالذل والغضب, أخذت أصرخ في غرفتي إلى متى هذه العيشة إلى متى هذا الاذلال, رأيت عمي من نافذة غرفتي فرحت به وخرجت إليه لأخبره بنجاحي، وأن أطلبه في مساعدتي في أمر ما, فرح عمي بي وقال: الحمدلله أخيراً تخطيت الكفاءة, فقلت: أرأيت يا عمي أنت قلتها أخيرا تخطيتها يعني أنا لا أنفع في الدراسة ساعدني أرجوك لكي أدخل التجنيد ساعدني على إقناع والدي أرجوك يا عم, قال: حسنا يابني سأقنع والدك.. سأقنعه بإذن الله, فرحت بذلك عندها أحسست أن الفرح آت, وبعد أيام جاءني عمي وهو يقول: يا عابد أبشر لقد أعطاني والدك توكيلا لأقطع لك بطاقة أحوال ووافق بأن أساعدك في التسجيل في إحدى المدارس العسكرية, وقفت جامداً لا أتحرك شعرت بأن كل فترات الفشل التي عشتها تتهاوى، شعرت في هذه اللحظة بانتصاري الأول, انتابني فرح مزدوج ضممت عمي إلي، وأنا أشكره من أعماقي لأنه كان المفتاح الأول لخروجي من هذا السجن.
ها أنا أنطلق بطاقتي بيد وحريتي باليد الأخرى، سأذهب إلى معسكري الرائع لأجسد أحلامي وأمنياتي، وأن أقف على الأرض قادرا على العطاء, ومرت مدة التجنيد، وتم تعييني في إحدى المدن العسكرية، وصممت على الكفاح لأصل إلى أملي الرائع, وبعد مدة استحققت إجازة فذهبت إلى رئيسي وطلبت منه إذنا بالإجازة لرؤية أهلي فلم يمانع، وأعطاني الموافقة, خرجت لا أنوي على شيء.. أركض.. أطير إلى لحظة الخلود إلى لحظة الارتجاء في أحضانها, أنا آتي إليك يا أمي.. أنا آت إليك أخيرا.. أخيرا.. اتصلت على خالي طلبت العنوان بالضبط، فأخذ خالي يشرح لي الطريق... أخيرا تم مرادي وها أنا على وشك الوصول إليها.. إلى من حرمت منها عشرين عاما.. نعم عشرين عاما حرمت منك, الآن سأكون في أحضانك يا أروع من في الأرض، وأجمل ما في الكون, أتمنى سيارتي أن تطير.. أن تحلق فوق الجبال.. وتدخل بين الغيوم.. يا إلهي أأنا مجنون؟ أو نشوة الشوق هي الجنون؟ أخيراً وصلت هاهو المنزل أمامي أرى الناس كثرا حول المنزل هل كل هؤلاء جاءوا ليرحبوا بي, آه لا أريد أن يكونوا حاجزا بيني وبين أمي, ها أنا أقف أدفع الناس من أمامي, أريد الوصول بسرعة إلى أمي, وجدت خالي أمامي يمسكني ويضمني ودموعه تملأ عينيه أخذني بعيدا, أبعدته عني وقلت له: لا أحتاج إلى حنانك الآن أحتاج إلى حنانها أنا ظامئ إليك يا أمي دعني أذهب إليها, يجذبني نحوه يحضنني من جديد صرخت به قائلاً: يا خالي أشعر بداخلي شيئا مؤلما، ولكن أرغب في حضن والدتي أرجوك دعني أدخل إليها, فحررت نفسي منه، وركضت إلى داخل المنزل، لكن وجدته أسود ومحترقا.. أرضيته غارقة بالماء.. شعرت بأن قلبي يقفز من بين ضلوعي, دخل خالي مسرعا خلفي للمنزل وقال: كفى يابني أنت تعذبني ألا ترى كيف أن المنزل محترق كاحتراق قلبي على أختي وعليك.. كفى يابني لقد احترقت مع هذا المنزل.. حاولنا إسعافها، ولكنها ماتت قبل أن تصل إلى المستشفى قلت: لا أريد أن أسمعك.. أريد أمي دعني أراها, قال: كفى لا تستطيع حتى أن تراها, قلت: أمي لم تحترق.. الذي احترق قلبي وجوفي أنني احترق من داخلي, قال: اهدأ يابني, وأخذني خارجاً، وأنا مازلت أصرخ.. أنا الذي احترقت.. فأخذ يصرخ على الناس ساعدوني على حمله, وأنا مازلت أصرخ أنا الذي اشتعل هي لم تمت.. حملوني إلى المستشفى، ولكني مازلت أشعر بأن النار تشتعل بي.. ولم أعد بعدها أشعر بشيء وفقدت الوعي.
صحوت وإذا بخالي قربي. أخذ يقول: الحمدلله على السلامة يابني لقد توقعت أنك جننت, نظرت إليه باستغراب وقلت: لماذا؟ قال: ماذا تعني هل نسيت ما حدث؟ صرخت: كفى.. كفى.. أغمضت عيني وأكملت: أريد أن أخرج من هنا وبسرعة, قال: حسنا لا تغضب كلنا سنخرج, ذهب إلى الطبيب وقال له: ابن أختي بخير ويريد الخروج, أتى إلي الطبيب وعاينني وعندما رأى هدوئي وافق على خروجي, وهكذا خرجت من المستشفى, فقط أريد أن الانطلاق, ذهبت إلى سيارتي, ولحق بي خالي وسألني: إلى أين يا ولدي؟ قلت: سأخرج من هذه المدينة لا أستطيع البقاء هنا ولا للحظة واحدة, فقال: لا ألومك بني، ولكن لا تقاطعني فأنت من ريح الغالية، لن أعارضك, قلت: لن أقاطعك فقط أريد أن أرحل الآن, قال: لابأس ولكن انتبه لنفسك.
ها أنا أنطلق إلى المجهول وأحس بأن التعب يحاصرني, أتطلع وأحدق إلى الفراغ, فراغ في نفسي يمر أمامي، شريط طفولتي المحاصرة بالكبر, الطفولة التي لم أحس بها, التي حرمت منها, بعد ان انتشلوني من حضن أمي, أحسست بوحشة باردة تتملكني, وأنا منطلق إلى أعلى المطل, الصور تمر أمام عيني في ذاكرتي يختفي أبي.. وزوجته.. وإخوتي.. كل هذه الصور تتلاشى, أحس بلحظة جنون لأهوي إلى القاع لأرتطم بالأرض من هذا المطل, إلى الضباب إلى الهاوية.. أبسط كفي في الهواء، وأنا أسقط سعيدا.. في السراب.. في الحلم.. وأحسست بالأشياء تصحبني إلى منفاي, أضغط على بنزين سيارتي لتسقط أسفل المطل بين الضباب أحاول ان أمسك الضباب دون دهشة أو خوف.. أسقط وأرى أمي تشتعل وأنا أسقط.. وأشعر بسيارتي وهي تهوي بي إلى المنحدر يسقط بي أسفل المطل.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved