Friday 29th October,200411719العددالجمعة 15 ,رمضان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "أفاق اسلامية"

«الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «39» «الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «39»
التشاؤم:ضرب من الخرافات لضعاف الإيمان والكسالى

* الجزيرة - خاص:
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
التشاؤم من أخطر ما يتهدد حياة الأفراد والمجتمعات، ونهى الإسلام عنه نهيا مطلقا لأنه من العادات الجاهلية التي يرفضها الإسلام لخطورتها على العقيدة، وسلامة وتقدم واستقرار الأمة، إلا أن بعض المسلمين للاسف يتشاءمون من أشياء بعينها، ويتوهمون أنها نذير شؤم دون وعي بمدى مخالفة ذلك لتعاليم وأوامر الشريعة، فما معنى التشاؤم؟ وصوره، وعلاقته بالخوف؟ وما البواعث النفسية الداعية للتشاؤم، وما آثار التشاؤم على الفرد من حيث نفسيته، وعلاقاته وإنتاجيته وتصوراته، وكيف يمكن علاج التشاؤم؟ وما هي الفوائد المترتبة على ترك هذا السلوك للفرد والمجتمع.
مخالفة عقيدة المسلم
بداية يقول د.عبدالله بن عبدالرحمن الشثري عميد كلية اصول الدين بالرياض، لقد منَّ الله سبحانه وتعالى على الأمة الإسلامية بدين قويم ومنهج سليم وصراط مستقيم وعقيدة صحيحة مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وبهذه المعالم العظيمة ارتقت الأمة فوق كل الأمم والشعوب، ولم تبلغ من العزة والمنعة والكرامة إلا باعتزازها بدينها وتمسكها بعقيدتها وبقدر إيمان العبد بربه واطمئنانه لدينه وثقته بخالقه وتوكله عليه يكون نور قلبه وكلما قوي إيمان العبد بربه عظم ذلك النور حتى يجلو ظلمات الجهل، ويقضي على ضلال الشبهات أو الانخداع بالشهوات، وهذا الإيمان يضيء للمسلم صراط الله المستقيم فسلك سبيله، ولا يتبع السبل التي تتفرق به عن سبيل الله، وقد قال جل شأنه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
والتشاؤم والتطير من الأمور التي تخالف عقيدة المسلم، والتطير في اللغة مصدر من تطير وهو مأخوذ من الطير لأن العرب كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بأنواع من الطيور، وأما في الاصطلاح فالتطير هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم، فهذه ثلاثة أمور، فالمرئي أن يرى طيرا ونحوه فيتشاءم منه والمسموع مثل من همَّ بأمر فسمع أحدا يقول لآخر يا فاشل يا خسران أو نحوه فيتشاءم ويتراجع عن هذا الأمر، أو معلوم كمن يتشاءم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض السنوات.
والتطير والتشاؤم بمعنى واحد وهو أمر مناف للتوحيد، فأساس جهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوة إلى التوحيد الخالص لله وإبطال الشرك وسد أبوابه وتطهير القلوب من كل اعتقاد يخالف كمال التوحيد.
وقد أبطل الإسلام ونفى كل ما كان يعتقده أهل الجاهلية مما يخالف الدين والعقل والفطرة، ولقد كان العرب قبل الإسلام إذا أراد أحدهم أمرا ذهب إلى وكر طير يستنفره للطير ويزجره، فإذا طار عن يمينه تفاءل واستبشر وذهب متيمناً، وإذا طار عن يساره تشاءم ونكص متطيراً حزيناً ونحو ذلك ما كان يفعله أهل الجاهلية.
مرجع هذا خوف واضطراب في النفس لأنها تعلقت بغير الله، فدب إليها الخوف والقلق حتى من تصرفات الطيور، وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عن هذا الاعتقاد الفاسد وبين بطلانه وانتزعه من القلوب حتى لا يفسدها، وأراح منه العقول حتى لا يضلها فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر).
وقد أخبرنا الله في كتابه الكريم عن أقوام كانوا يتطيرون ويتشاءمون حتى بالحق الذي جاءهم من الله على لسان رسله وأنبيائه، فقال تعالى عن قوم موسى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ}، فرد الله عليهم بقوله ( أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ ) (131) سورة الأعراف لأنهم كانوا إذا جاءهم البلاء والجدب والقحط قالوا هذا من موسى وأصحابه فأبطل الله هذه العقيدة الفاسدة، وأخبر الله سبحانه وتعالى أيضا عن أصحاب القرية التي جاءها المرسلون بقوله: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}، أي تشاءمنا بكم.
وأخبر الله جل وعلا كذلك عن قوم صالح عليه السلام أن قومه تطيروا به فقال سبحانه: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}.
البواعث النفسية
ويضيف د. الشثري: والمشروع للعبد طَرقُ أسباب الخير والتفاؤل والاستبشار بها والفرح وعدم الركون إليها أو الاعتماد عليها، بل يكون الاعتماد على خالق الأسباب ومسببها، وذلك هو تحقيق التوكل على الله والإيمان به، والواجب على الإنسان أن يتوكل على الله في كل أحواله وأعماله لأن الله هو الذي يعين العاملين ويوفق المخلصين، ويهدي الواثقين به، وقد استفاض القرآن في آياته وسوره بالحث على التوكل على الله والإخلاص له في الأعمال.
أما البواعث النفسية الداعية إلى التشاؤم فيمكن تلخيصها في ضعف الإيمان في القلوب، وسيطرة الأوهام والخرافات على القلب التي تضعف عزيمته، وتضعف توكله على ربه، وترك العمل والاستجابة لهذا التطير وتعلق القلب به، إضافة إلى ضعف جانب الإيمان بالقضاء والقدر، فالمؤمن بربه المتوكل عليه يعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وهو الواحد المتصرف المدبر للأمور لا يغير قضاءه شيء ولا يرد بلاءه طير.
فإذا قوي جانب الإيمان في النفس واستقر فيها التوكل على الله حاربت النفس كل ضلاله وسارعت إلى الخير بفعل أسبابه ودمَّرت كل وهم وضلال يريد اختراقها أو إضلالها لأن التطير والتشاؤم ضرب من الخرافات والأوهام التي لا يقدم عليها إلا من سيطر على عقله الجهل والهوى، وجعله ألعوبة للشيطان، والعلاج من هذا يكون بالتوكل على الله وحده، والاخذ بالأسباب المشروعة والطرق التي يسرها الله للفوز والفلاح وتحقيق المصالح.
وفي الحديث الذي أخرجه أحمد (اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك)، والتوكل على الله أجمع أنواع العبادات، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها، وهو من أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع، ويستدفع بها المضار، وقد حث الشارع على التفاؤل والاستبشار لأنه مشجع على العمل محرك للعزائم باعث على النشاط والإقدام.
وقد قيل: التطير إحجام، والتفاؤل إقدام والتشاؤم من الشيطان، والمؤمن المتفائل إن عارضه شيء يكرهه أو عائق يمنعه أو خالجه ظن من التشاؤم أو خطر له وهم من تطير ونحوه أن يقول كما أمره نبيه- صلى الله عليه وسلم-: (اللهم لا يأت بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك)، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يتفاءل في غزواته وحروبه ويسمع الكلمة الطيبة ويعجبه الفأل، كما ينبغي للمسلم أن يعمر قلبه بالاعتقاد الصحيح المبرء من كل ما كان عليه أهل الجاهلية، وكل زمان شغله الإنسان بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو شؤم عليه.
الحذر من الخرافة
من جانبه يقول الداعية الشيخ عبدالله بن صالح القصير: إن أساس دين الإسلام أن يسلم المرء وجهه لله، وأن يتحرر من رق العبودية لمن سواه، قال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}، وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وإسلام الوجه لله هو إخلاص القصد لوجهه، وإفراده وحده بعبادته، اعترافا بربوبيته وإلهيته وكماله في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا ند له ولا سمي له ولا كفء له، ولا شريك له في ألوهيته وعبادته، كما أنه لا شريك له في ربوبيته وكماله في ذاته وأفعاله وصفاته.
والإحسان في عبادة الله سبحانه وتعالى لا يتحقق إلا بالاقتداء برسوله- صلى الله عليه وسلم-، ومتابعته، فلا يعبد إلى الله، ولا يعبد الله إلا بما شرع، فلا شرك ولا إلحاد ولا بدع ولا إفساد، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ}، فشأن المسلم كمال الإخلاص لله، والتعبد له سبحانه بشرعه وهداه، والحذر من التوجه إلى غير الله، أو أن يتخذ المرء إلهه هواه.
وهذا الاعتقاد الصحيح يفرض على المرء أن يكون مقبلا على ربه، متوجها إليه، مؤمناً به، متوكلا عليه، مخلصا له في العبادة رغبة ورهبة إجلالاً له، ورجاء له ومحبة، وخوفا منه ورهبة، ومن كان كذلك كان أجمل الناس سيرة، وأشكرهم لنعمة ربه، وأطيبهم حياة، وأحسنهم عاقبة، وأعظمهم مثوبة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
ومن لازم الإخلاص لله تعالى وصدق متابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يتجنب المرء كل ما يؤثر في اعتقاده أو ينافي إيمانه، ومن ذلك: الحذر من الخرافة بجميع صورها، وأن يبتعد عن الضلالة بشتى أشكالها، سواء منها ما كان تقليداً موروثا له أصل في عقائد الجاهلية الاولى، كخرافة التشاؤم لشهر صفر أو يوم الأربعاء أو نحوهما من أجزاء الدهر، أو أصوات الغربان والبوم وصوائح الطير، أو ما كان منها وليد اختراع من تلقينات العجائز الفاسدة، أو مفاهيم العوام الضالة، كالتشاؤم بصباح صاحب التعاسة، والمنظر المكروه، والحادثة السيئة، أو كلمة يسمعها المرء من شخص لا يعنيه كأن يسمع وهو في طريقه لحاجته من ينادي بالخيبة، أو يدعو على نفسه بالتعاسة، فيحز ذلك في نفس الشخص ويحدث له ضيقاً في صدره، وربما رده ذلك عن حاجته او جعله يسيء الظن بربه، فيظل طوال يومه مهموماً، ويقبع في بيته بسبب تشاؤمه بما سمع من أصوات، أو ما رأى من حوادث وذوي عاهات، أو بالأزمنة واللحظات، وهذا كله ضلالة وجاهلية، لأنه في الحقيقة مما ينافي التوكل على الله لما فيه من التعلق بغيره، واعتقاد مدبر في الملكوت سوى الله.
جذور الوثنية
ويضيف الشيخ القصير: إن التشاؤم من خصال الجاهلية، ومن فاسد عقائد أهل الشرك والوثنية، فلقد كان أهل الجاهلية يستسلمون للخيال، ويسلمون أمورهم لشرار الضلال، ويصدقون الأوهام، ويركنون إلى الموروثات عن الأسلاف، ولقد عاب الله عليهم ذلك إذ يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}.
فكانت الخرافة تفت من عزمهم وتحول اتجاههم، وتحول بينهم وبين حاجاتهم ومصالحهم، وتقطع عليهم آمالهم، فجاء الشرع المطهر بإبطال ذلك كله، وهدم بنيانه من أساسه، جاء بتحرير العقول من رق الوثنية وخرافات الجاهلية، وتوجيه القلوب إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب الذي كل شيء بقضائه وقدره، فهو معلوم له وبإرادته، ومثبت في الكتاب عنده: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)، متفق عليه، وفي هذا إبطال لخرافات الجاهلية، ونفي لما كان يعتقده الجاهليون في هذه الأشياء من أنها يقين بالمكروه، أو أنها تدل على أنه سيحل بهم.
فبين- صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأمور ليست مؤثرة في نفسها ولا دالة على ما قدره الله وقضاه، وفي التنزيل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وقال- صلى الله عليه وسلم- : (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف).
فبهذه النصوص وأمثالها مما هو كثير في الكتاب والسنة تجتث جذور الوثنية، وتقطع أسباب الوهم التي طالما فتكت في البرية، وترشد إلى إخلاص التوحيد لله والاعتماد عليه دون ما سواه.
صور التشاؤم
ويتفق الشيخ منصور بن محمد الثاري مدير المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بالشفا مع الرأي القائل بأن التشاؤم من أخطر ما يصيب حياة الأمم في الصميم، وقد نهى الإسلام عنه نهيا مطلقا لأنه من العادات الجاهلية التي يرفضها الإسلام لخطورتها على العقيدة، فالتشاؤم لغة: يعني تفاعل، والشأم والشؤم ضد اليمن الذي هو البركة، وأصل هذه الكلمة يدل على الجانب اليسار، ولذا سميت أرض الشام شاما لأنها على يسار الكعبة، ويقال: رجل مشؤوم أي جر الشؤم عليهم، ورجل ميمون أي جر الخير والبركة واليمن على قومه، وقال الحليمي: (التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال).
ومن صور التشاؤم أن يتشاءم شخص بالمرئيات مثلا برؤية اصحاب العاهات، أو الأشكال القبيحة، أو يتشاءم ببعض الايام أو بعض الشهور أو بعض السنوات، كما كانت العرب في الجاهلية يتشاءمون بشهر شوال، أو يتشاءم بسماع كلمة مثلا، يا خسران، يا خائب أو نحو ذلك من الكلمات، وثمة علاقة سببية بين التشاؤم والخوف، فالتشاؤم لا يأتي إلا بسبب خوف الإنسان إما على نفسه أو ماله أو على أهله وعياله، لأن المتشائم يخاف من وقوع شيء مكروه، ولا يؤمن بالقدر، وهذه علامة ضعف الإيمان وعدم اليقين بالله تعالى وهذا من الشرك؛ لأن الخوف والرجاء كلها لا يجوز إلا من الله تعالى؛ لأنه لا يحدث شيء في العالم إلا بقدر الله وقضائه كما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس رضي الله عنه: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
وللتشاؤم أسباب وبواعث كثيرة، منها: ضعف الإيمان بالله وقلة ذكره، والجهل وضعف العقل وقلة البصيرة، وضعف اليقين والتوكل على الله تعالى الذي بيده كل شيء، والجبن والضعف والخور، وعدم الشجاعة والحزم والإقدام، وعدم الرضا بقضاء الله وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وإن لم يكن أكبر منه، وسوء الظن بالله تعالى، واعتراض على حكمه وحكمته، وجعل الدنيا أكبر الهم والغفلة عن الآخرة.. إلخ.
قتل معاني الإخوة
ومن آثار التشاؤم كما يقول الشيخ الثاري انه ينقص الإيمان، ويضعف اليقين، ويضاد التوكل، ويجعل صاحبه عبداً للخرافات والخزعبلات، كما انه يؤدي إلى الشرك بالله تعالى، وهذا من أعظم الأضرار، كما انه يجعل حياة المتشائم نكداً وكدراً وهماً وغماً، فهو منكدر الصدر، كاسف البال، سيئ الخلق، يضاف لذلك إنه يزرع الشك والتنافر، ويقتل معاني الأخوة والمحبة بين أفراد المجتمع، والمتشائم نفسه يهزل ويضعف جسمياً، لأنه يأكل نفسه بنفسه حسرة وحسداً ويرى أنه لا فائدة من المعالجة، أو مقاومة أدواء النفس، كما أنه يصاب بخور الهمة، لأن من لا يرى إلا الإخفاق ولا يفكر إلا بالخيبة، سينتهي حتما ويتوقف عن كل نشاط وتتحول همته إلى الدناءات فيحب العزلة والانطواء والتعاظم في الباطن.
أما علاج هذا المرض والخلاص من هذا الداء فيكون بعدة أمور هي: الثقة بالله تعالى وصدق التوكل عليه، وطرح الوساوس والأوهام، وقطع دابرها، وعدم الالتفات إليها بالكلية، وأن يقول الدعاء المشروع إذا حصل له تشاؤم، حيث قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك).. قالوا يا رسول الله: ما كفارة تلك؟ قال: (أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)، واليقين أنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بقدر، كما اكد الرسول- صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس رضي الله عنه، وأن يستخير الله سبحانه في امره، فيمضي على ما ألهمه الله.
وحول الفوائد المترتبة على ترك التشاؤم يقول الشيخ الثاري: يترتب على تركه فوائد عظيمة، حيث يتحقق التوحيد الكامل الذي طلبه الله من بني آدم، فبسبب التوحيد ومن اجله جعل الجنة دار التوحيد، كما يرتاح المسلم نفسيا وجسمياً فيقوى جسمه وتعلو همته لمقاومة الخزعبلات والخرافات، ويمتد ذلك إلى المجتمع، فتسود المحبة والألفة بين أفراد المجتمع.
سر المتشائمين
من جانبه يقول الشيخ عبدالرحمن بن محمد الهرفي عضو مركز الدعوة والإرشاد بالدمام: خلق الله تعالى الإنسان في هذه الحياة في كبد - أي مشقة - فعلى الإنسان أن يتعامل مع هذه الحياة وفق هذه النظرة، أنها مشقة، وليست دار فرح وحبور، ولكن مع هذه النظرة الفاحصة التي تظهر الحياة على حقيقتها؛ لابد له من أن ينظر لها بعين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلك العين المتفائلة في أحلك المواقف، وأصعب المشكلات.
ولننظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يقف على آل ياسر وهم يعذبون في ذات الله، ثم يلتفت إليهم وهو يقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) يعدهم بالجنة ثمنا للتعذيب، فما أحسن الكلام مع شدة الموقف فصبراً لأنهم تفاءلوا بالجنة.
وكذا عندما تحيط العرب قاطبة بالنبي- صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق، فيضرب الصخر ويكبر ويقول: الله أكبر تفتح فارس، فإن قيل: كان ذلك وحيا من الله، فأقول: نعم، ولكن ماذا تقول بقوله بعد ذلك: اليوم نغزوهم ولا يغزونا!!.
إنه ذكاء القائد وحنكة المربي الذي يريد أن يربي أصحابه على التفاؤل بنصر الله القادم.
لكن للأسف بعض الناس لم يستوعبوا هذا الدرس فينظروا لكل شيء بعين التشاؤم، بينما ينظر المؤمنون بعين التفاؤل، لكن الفال يحتاج إلى عمل وجهد، وهذا هو سر المتشائمين إنهم تركوا العمل وأخذوا لأوهامهم وتخيلاتهم وأحلامهم السوداء، فالتشاؤم حالة يحاول الكسلان البليد من خلالها أن يرتاح بها من عناء الجد والجهد.
والإسلام لأنه دين عمل وضرب في الأرض لذا فهو يرفض المتشائمين الخائفين البطالين، ويحب المتفائلين العاملين، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، والخليفة هذا لابد أن يعمر الأرض بالإيمان وكل ما ينفع به نفسه وأهله، فكيف تريد من متشائم أن يزرع ارضا او يدعو ملحدا إلى الإسلام؟!
والمتأمل في سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجد أن يحب الفائل دائماً، حتى يتفاءل بالأسماء ذات المعاني الجميلة كما تفاءل يوم الحديبية لما قدم سهيل بن عمرو، كذا كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكذا يجب على المؤمن أن يعيش حتى يصل إلى مرضاة الله تعالى ويحقق المقصد الشرعي من خلقه.
وعلاج التشاؤم هذا لمرض المقيت يكون بالالتجاء إلى الله تعالى وسؤال الإعانة والتوفيق في الأمر كله مع العمل بجد ونشاط وترتيب، ومن آمن بالقدر حق الإيمان عمل وهو يعلم أن الله محيط به ومؤيد لأنه أرحم الراحمين.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved