|
|
انت في
|
| |
يا ترى هل كانت تدرك بطلة فيلم التيتانيك (كيت وينسلت) قيمة المعطف الذي دثرها به صديقها (رونالدو دي كابريو) في ذلك الجليد بعد تحطم السفينة الأسطورة في بدايات القرن الماضي على حرف جبل باذخ من الجليد، يطاول عنان السماء بغاربه، لو رآه ابن خفاجة الأندلسي لزهدت عينه في جبله الذي وصفه على يابسة الأندلس، وهل ما زالت تذكر فرق الطوارئ عندما أنقذتها من أعلى خشبة من حطام السفينة ووجدت رونالدو قد مات متجمداً بسبب البرد القارس؟.. صدقاً لا أتصور عطاءً إنسانياً مثل ذلك عندما تهب حياتك للآخرين وتمضي عن هذه الدنيا دون أن تنتظر منهم أي شيء يذكر، ولو قالوا شيئاً فلن يصلك، ولو وصلك فلن تلتفت إليه، فما أنت فيه أدهى وأمر في صورة تعطي بعداً يؤكد أن الإنسان قد يتخلى عن حب ذاته نتيجة موقف إيثار تتجلى فيه التضحية والبذل الإنساني الصادق ويغادر هذه الحياة ولا يقف العطاء غير المحدود عند حدود الجنس الإنساني، بل قد يتوافر في الجنس الحيواني مثل قصة جاموس استوقفتني قبل قليل في إحدى الفضائيات أثناء كتابتي هذا المقال، فقد هجم عليه نمران مفترسان وطرحاه أرضاً فتدخل جاموس آخر وأخذ يدفعهما عنه بقرونه ولما هرب المطروح من الموت دون التفات لما وراءه هجما على الجاموس المنقذ فطرحاه أرضاً وافترساه، ولا يختلف ذلك عن طائر القطرس القطبي الذي يذهب كل يوم للصيد حتى يطعم فراخه وحينما يعود خالي الوفاض يفتح جناحيه لفراخه الجائعة لتسد رمقها من ثندوته فيتهاوى ميتاً، ويسجل بدمه على سفر العطاء المحمود تضحيته لفراخ فكرت في ليلتها وتناست من يجلب لها الغذاء بعد غد مثلما تذكرت كيت تضحية رونالدو أياماً ثم عادت لحياتها كأي امرأة في هذا الكون وكأنها ملكة النحل عندما تعاقب الذكر (اليعسوب) بالقتل بعدما يلقحها وهو من يحفظ لها نوعها واستمرارها، وقد يكون البذل أقل من حياة ولكنه في تلك اللحظة أعظم من الدنيا بما فيها نتيجة الصدق في الشعور المتناهي، وهذا مما يفسر به موقف الكاتبة الإيطالية (أليرامو) مع الشاعر الإيطالي (دينو كامبانا) عندما يشتد به الغضب ويتفجر غيرة عليها فيختلط عشقه بكلمات قاسية وأحياناً يتطور الحزن والغيرة إلى اكتئاب ووسواس قهري ممزوجين بالكلمات والتشابك وصنوف العذاب وحين يمطرها بكل ذلك في لحظة غياب تصبر حيناً وتستنجد حيناً آخر بأصدقائه ومن في الشارع لينقذوها من تحته، وعندما تراه تحتهم وهم يقسون عليه تصرخ فيهم... (اتركوه إنه أعظم شعراء إيطاليا) ثم تأخذه إلى البيت تحاول تهدئته والتخفيف من روعه لأنها تعرف صدقه في حبه ولولا ذلك لما حصل هذا، ومثلها شهرزاد التي عالجت زوجها بعطاء ألف ليلة وليلة دون كلل ولا ملل، حيث تسرد له كل ليلة حكاية لا تكملها إلا في اليوم التالي لينام حتى تم شفاؤه من مرضه وعقده وهوس قتل البنات، وما أجمل عبارة د.عبدالله الغذامي في العطاء عندما قال في (المرأة واللغة): تشير جوديت فيتري إلى حادثة موت البطلة في رواية (وداعاً للسلاح)، حيث تتساقط الدموع من عيون القارئات ليس حزناً على المرأة التي ماتت وإنما هو الحزن من أجل فردوك هنري.. إن دموع النساء تسيل من أجل الرجال لأن عالم الرجال هو العالم المعتبر في هذه الرواية فأي حالة يمر بها الأدباء يا دينو وهم بين نوازع نفسية واجتماعية وسياسية في هذا الكوكب المتسلح، وأي جوع يعصرهم في حروبه وأي غربة تجتاحهم بعد سقوطهم وسقوط أوطانهم وهم مجتاحون قبل ذلك من القلق والاكتئاب والوسواس وعارض أرنست ولم يجدوا من يعذرهم في حالهم تلك وكأنهم ذلك المقال الأسود الذي كتبه نيابة عنهم جميعاً العقاد ذات يوم احتجاجاً على شيء ما في هذا العالم لم يعجبه فالتزم الصمت ولون الورقة البيضاء بالسواد تماماً وأرسلها لرئيس التحرير ونشر مقاله الأسود في اليوم التالي وكان الباعة يصيحون اقرءوا المقال الأسود للعقاد، وماذا يعني هيكل وما هيكل إلا مثل إن انصرف عن الكتابة أم عاد إليها لأن المجتمع المشغول لا يسأل عن قلمه ولن يسمعه عبارة مثل عبارة الكاتبة أليرامو السالفة، لقد عاد بعد تجاهله استجابة لنداء نفسه طائراً على الهواء بعد ما مل الكتابة على الأرض، عاد يحكي بأثر رجعي ما هو معروف وما هو مسكوت عنه مصلحة وحكمة فيما يخص مصطلحات النكبة والنكسة والخراب ليسمع زمناً أعمى قد فقئت عيناه وهو لا يؤمن بقولهم (إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) لأن أدباءه البائسين قد سئموا تكاليف الحياة في ريعان شبابهم حتى أصبح زهير في نظرهم أديباً محظوظاً لأنه سئم تلك التكاليف بعد الثمانين، وقيض الله له كريماً مثل هرم بن سنان أعانه على نوائب الدهر، وما من كاتب حاذق في هذه الروايات البوليسية يستطيع رسم شخوصها بأكثر مما وصفت به نفسها حتى أشهدت الزمان والمكان على واقع أبلغ من الخيال وكأنه ممن وصفه (فيشر) حينما قال عن الخيال: (قد يكون واقعاً بالغ التركيز) ولا يريد الأدباء منه أكثر مما قاله كاتب فرنسي عندما رفع شعاراً خالداً ذات يوم بائس في قوله: (عش ودع غيرك يعيش أيضاً)، محتجاً على احتلال فرنسا للجزائر، الذي دام أكثر من قرن وربع القرن في زمن حرم الغزو والغنائم والسلب والنهب على الأفراد وشرع للدول غزو بعضها ومحاكمة رموزها، وأعجم لغات التفاهم والسلام وأغرب مصطلحات على الفرد والمجتمع بطريقة تفكير تناسب القرن السابع عشر الميلادي وثقافة تتدخل في ما يجب أن يؤكل وما يسمح به أن يمارس، وأصبح الفرد يحاذر حتى الأطفال وحتى الجدران وحتى التليفون.كما قال مظفر النواب فسجل شهادته على قساوة حزب البعث مثلما سجل ريمارك حقيقة الكشف والفضح والانتقام والتعرية لمنهج النازية في روايتين من أشهر الروايات البوليسية الحربية، هما.. (كل شيء هادئ في الحي الغربي)، و(للموت وقت وللحب وقت)، شهادة التاريخ على تلك الحقبة التي نقشت على سفر من حجر دكتاتورية ألف نيرون جديد يختلفون عن القديم في أنهم أكثر عالمية لا يكتفون بحرق روما واحدة بل تجاوزوها إلى حرق قارات أخرى وطمس هوية شعوب كاملة وجلسوا مقابلها على مرتفع يؤلفون قطعاً موسيقية يضربون بمخالبهم على أوتار الأمعاء والأشلاء وويلات النساء وصراخ الأطفال ثم مات نيرون وبقي رمزاً للسادية والاستبداد والتلذذ بإحراق المدن، مثلما انتهى نابليون بعد أن طاف الأرض عند صخرة في سانت هيلانة ولم تسمع أوروبا بموته إلا بعد أسابيع، وهي المدة التي استغرقتها الخيول لإبلاغ النبأ، فلماذا لا يقف هؤلاء الساديون والطغاة مع نفوسهم في خلوتهم ويرون حجم العذاب الإنساني الذي سببوه لكائنات تجتمع على كره رؤية أرض تحترق بأهلها ودمار يكتسح كل شيء وجوع يفتك بالبشرية حولهم مهما كانت المسوغات، ولقد أصبحت مهمة كل فرد في هذه المآسي مقاومة الانهيار النفسي الكبير في زمن الحروب بأصعب مما قاوم الكاتب وليم ويلر به محنة الحرب، فغمر عائلته بالحب في فيلم (أحلى سنوات حياتنا)، وتتمثل الصعوبة في أن العائلة كلها لا تملك وقتاً للحب بعد أن تسمرت عيونها أمام فضائيات الدماء والكوارث في المسلسلات والأفلام والأخبار وبرامج الأطفال، مما زاد من حجم الكارثة النفسية لدى الجميع في صورة تعد ما عالج الفارس العبسي عنترة به نفسه من دمار الحرب ضرباً من المستحيل، حينما عزى نفسه المحبطة من الواقع المملوء بالعنف وقاوم تلك النظرة السوداوية تجاه الحياة بسبب الحرب بتذكره عبلة وروحه في خطر... إنه قمة العطاء الإنساني والعودة إلى الفطرة السليمة، وكأنه يريد أن يثبت لمن خلفه أنه لم يكن شريراً وقاسياً حسبما تصوره الروايات والقصاص وكتاب التاريخ، بل قلبه مملوء بالحب والأمل ولذلك قال: |
![]()
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |