|
|
انت في
|
لا أعجب في عظيم حب بذلت أقطابه لجسد فتاة صغيرة لم تجاوز الخمسة عشر ربيعاً، وقد تحلق حولها المحبون وتراقصوا بابتساماتهم، وحفلوا بجمال منظرها وبهائه، دون أن يدركوا أن أبواب العذاب تفتح على مصراعيها لتلفح وجوهاً وتعري تلك الابتسامات وتندثر معالمها مع آهات من الألم والمرارة. ولا يتسنى للمرء عند وقوع الخطب الكئيب سوى التسليم للقدر الإلهي، وبذل الحلول لإدراك ما يمكن إدراكه. وهي حياة أب عظيم، رجل بشوش جميل القسمات بديع الطلعة، ظريف وذو ابتسامة صافية، يتأمل فتاته الوحيدة وقد تراقصت أمامه بعمرها الجميل، وبطلَّتها البهية، دون أن يفكر في لحظة متأنية شقاء المرحلة القادمة. ابنته الجميلة تتبسم وتثري الحياة بزهرها الفواح، يرقبها بمحبة وقد اختلج في قلبه حبها وجمال ما تصنعه. وفي لحظة تهاوى صرح الجمال أمام عينيه، وفزع وكادت عيناه أن تخرجا من محجريهما، وانطلق بربكة عارمة نحوها، يحس بغرابة تغمره وتخنق الأجواء عليه، حملها بين ذراعيه، لا يدري كيف طاق ذلك مع كهولته وضعف بدنه، لم يدرك ماهية ما حدث، ظل يرقب وينتظر وهو يشاهد الطبيب يفحص ابنته الحبيبة، ماذا جرى يا دكتور؟ أفصح عما تخبئه بين ثنايا صدرك. صاعقة مؤلمة وخبر مهول مزلزل، وردتي الفواحة تعاني من قصور في نبضات القلب، وصعوبة ضخ الدم منه وإليه، أب يواجه خبراً كهذا ليقين أنه سيصرع ألماً وحسرة، ولكنه تماسك وبتعقل وهدوء قام بإجراء عملية إدخالها إلى المستشفى، يدور في خلده حديث طويل، أيعقل هذا؟! كانت تلعب من حولي وتملأ عليَّ حياتي، أيعقل أن تغيب تلك الابتسامة عن شفتيها الورديتين، وتغيب ابنتي الجميلة ويحل شبح محلها؟! هي مرارة الأيام لا تشقى ولا تكل من مرارتها، غابت أيام الجمال والسعادة، وتوطَّنت لحظتها معاني الألم والعذاب والحسرة، وأي قلب أب يطيق آلام ابنته وقد صرخت بين فينة وأخرى تشكو من صدرها وضيق أرجائه؟! فماذا يصنع الأب حيال ذلك وقد عجزت أطرافه على أن تقوده وامتنعت من مواكبة آماله في الوصول إلى ألم ابنته فيقطعه ويريحها من عناء الألم؟! شرد ذهنه قليلاً يتأمل هناك في حياة مضت وكيف استقرت على نمط لم يكن يتوقعه ولا حتى يتأمله، كيف ذبلت الوردة الحمراء التي أينعت مجرى الحياة؟! كيف تساقطت وريقاتها، وخَفَت بريقها، وذهب لونها، واختفى أريجها؟! كيف استطاعت الأيام أن تجري تلك الأعباء في جسد رقيق، فزادت من هزله واختلاله؟! أي حياة تُطاق وقد حاصرتها الآلام من كل جانب؟! ولأخشى من جزع يتسلل إلى نياط القلب فيحدث فيه الويل والثبور، ولأخشى من تناقص صبر وانهيار جدرانه واختلال أركانه، فلا يطيق بعد ذلك من حياة، ما أطولها الأيام المريرة تمر ببطء وتثاقل شديد، وكأنها سنين مضت خلَّفت آثارها على القسمات من تجاعيد وانكسار، وعلى الشعر من بياض وانصهار، وعلى الجسد من انحناء وانهيار، لكم هي ممتدة طويلة، كئيبة ومملة، ولكم من الأماني تتلاحق ترجو اضمحلالها، ولكم من الأمنيات تتابع تأمل في زوالها، وهي أمنيات غاب الرجاء في تحققها، مع كل نظرة أبصر فيها ذلك الوجه الأصفر الباهت، وشبح من الحياة يرتسم حوله ينذر بهجرة إلى العالم الآخر. التف الجميع حولها يأملون ويرجون من تغيير وتحسن عله يطرأ، جهاز تخطيط القلب يشير بأزيز مزعج إلى مؤشرات نبضات قلبها، وكيف بدت بطيئة، كأن النبضة تلحق بالأخرى بعد سنين!! تفتح عيناها وبصعوبة تنظر بنصف عينها، رمقتني، بدأت تحدق فيَّ، شعرت بالخوف والفزع، ماذا جرى؟! رفعت إليَّ يدها بعجز وصعوبة، تلقفتها وأحطتها بكفي وضممتهما إلى صدري، وقد شملتها بحنان ومحبة، تحاول أن تتكلم، تحاول وبجهد وقد تشققت شفتاها ليُبْس أحاطهما، نطقت بحروف متقطعة، بكلمات ألمَّت علي الأمراض، بعبارات تصيبني بالبكاء ما حييت. (أحبك يا أبي)، كانت آخر ما قالته قبل أن تسلم روحها لباريها، تحبني!! نعم تحبني كانت آخر كلماتها، أكانت تحاول أن تخفف علي المصاب؟ أكانت عباراتها كَيَدِ حانية تربت علي لئلاَّ أجزع؟ أكان صوتها الندي الضعيف رسالة لتخفف من روعي وتزيد من الطمأنينة في قلبي أنها في رعاية الله؟ لا أدري بم أفسر تلك اللحظة، ولكن أدرك أن حبي لها عظيم، وأنها قطعة من القلب قد اجتزَّت مني، ولا زال القلب ناقصاً منذ ذلك الحين، ولأقسم بأن الذاكرة لا تغفلها لحظة واحدة، وأن زهرة في قلبي قد اقتطفت ففقدتها، ولكن لن أفقد عبيرها في قلبي وقد فاح في الأرجاء قاطبة، ولن أنساها البتة. لكم يؤلم أن تخترق تلك الكلمات سمعك مشافهة، وقد شاركتها دموع على الأهداب، ونشيج شديد يضفي الحزن على الأجواء. ها هو أب في لحظة من العمر يفقد ابنته الحبيبة، وقد عبَّرت عن حبها له في آخر لحظات حياتها. لكم يؤلم أن تسمع هذه الأحداث من صاحبها وقد سطَّر من الكلام ما عجز معه العقل عن الاختزال، والبنان عن التعبير بكل ما جال. أب يكلم جرحه لحظة بعد لحظة، وزهرته لا تغيب عنه بتاتاً، يذكر حديثها وضحكاتها العذبة وقد تردد صداها في عقله فآلمه وأدماه، فما من بدٍّ من صبر يطيق هذه المرارة، ويتحمل كل الآلام، وما من وسيلة ناجعة غير ذلك، حتى تعود حياته كما كانت قبل أن تستحيلها الأيام إلى آهات وآهات، وكلنا تمر علينا أحداث لا نرغبها ولا نستسيغ سماعها، وعلى الرغم من ذلك نجاهد للنجاة وللحفاظ على وتيرة حياة كنا نعايش أمتع لحظاتها، فجدار الصبر لا بدَّ أن يكون مرصوصاً، صُلبة عمدانه، قوية أركانه، فما من عارض إلا ويتلقاه ويتصدى له، فلا يقوده إلى جزع وانحدار، فالحياة صفحات تلو صفحات، ولنفتح رحاب صفحة جديدة نرغد بالعيش في روضاتها الزاهية وبين مروجها الباهية، ولنفتح للسعادة باباً من جديد ليغدق علينا أفراحه وظلاله السعيدة، وحتى لا تكون أيامنا كلها عذاباً وشقاءً وبؤساً، ولنأمل في بشاشة تسمو على القسمات، تزرع حمرة سعيدة على الوجنتين، وتشق الفرحة وتمطر مياهها بقية الحياة. |
![]()
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |