Saturday 12th February,200511825العددالسبت 3 ,محرم 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "زمان الجزيرة"

23 جمادى الاولى 1392هـ - الموافق 4 يوليو 1972م العدد(398)23 جمادى الاولى 1392هـ - الموافق 4 يوليو 1972م العدد(398)
نفوس كبيرة
قصة قصيرة بقلم: محمد القواسمة

كفى خفاقانا أيها القلب.. حسبتك تهيم بها.. مالك وإياها.. لست أهلاً لها.. كف عن النبض أين أنت منها؟
انها ابنة العم موفق أثرى تاجر في البلدة، وأنت قلب ابن مزارع بسيط لا يعمل حتى في أرض هي ملكه بل بالاجرة اليومية.. يكابد العناء والمشقة في سبيل لقيمات تكاد لا تسد أفواه أبنائه السبعة.. فأين أنت منها بربك..؟ هي في دنيا غير دنياك.. وعالم ليس هو عالمك.. ولكنك من حين لآخر تعاود الخفقان حتى انك لتخفق لمجرد أن تسمع صوتها من الحجرة الاخرى وهي تحدث أختى سامية زميلها في الدراسة.. أو لمجرد أن يطرق ذكرها على اللسان.. كف يا قلب فلست قلبي إن عدت إليه ثانية.. فعلياء المتيم بها ليس لك.. انها علياء وكفى..
ويصل الاب الذي أفنى زهرة عمره في العمل مزارعا.. يصل مترنحاً، اعياه التعب وأنهكه اللحاق وراء المحراث، وهو يمشط الارض..إنه لا يكاد يقف على قدميه.. ولو نظرت الى ظهره لأرعدك انحناؤه ولحسبته قد جاوز الثمانين وهو لم يناهز بعد الاربعين.. فترثي له، وتشعر بالحسرة على حاله، وتلعن الايام التي أحاقت به وخلعت تلك الصورة الشاحبة المؤلمة ويدخل الى غرفة نومه وأكله وجلوسه وراحته.. فليست هناك الا هذه الحجرة وحجرة أختي صغيرة اعتاد الأولاد أن يرتكن كل منهم الى احدى زواياها يذاكر دروسه.. ويتمطى ابو سامي على فرشة رثة ضاقت برقعها.. تمطى والآهات تملأ شدقيه، وينادي كالعادة على زوجته المتفانية في حب زوجها وأولادها، فما أبدت الضجر يوما، ولا تأففت لهذا الحال المتلطخ بالشح والشقاء.. كانت تغسل آخر الاطباق في مطبخها الصغير، فتركت الطبق من يدها، وتقدمت نحو زوجها وهي تفتش عن أحلى كلمة وأقرب نغمة تستقبل بها زوجها المنهك.. دنت وقالت: (أعطاك الله العافية يا أبا سامي، كيف الحال هذا اليوم؟ إنني اراك متعباً اكثر من أي يوم مضى، هل من جديد أيها الزوج العزيز؟ ويجيب الزوج والبسمة ترتسم على شفتيه.. فما اعتاد أن يستمع الى زوجته الا وتنفرج اساريره: (لا، ليس من جديد، لكنني أحس ان التعب والارهاب يتراكمان شيئا فشيئاً ليداهماني فجأة فيثقلا علي ويتركانني بلا حراك).
وتطرق ام سامي هنيهة تقول بعدها: (لا بأس عليك، ولا تدع السأم يتسرب الى قلبك الكبير، إنك أكبر من ضربات الفأس التي تهوي بها على الارض.. انت أكبر من كل الغرسات التي غرست، والأشجار التي قلمت.. انك أكبر من التعب.. وأكبر من كل شيء.. ولا تحسب أن البذور التي تبذر، والغرسات التي تزرع هي وحدها التي تنمو، وتترعرع فتصبح أشجاراً تؤتي الأكل.. بل هناك بذور أخرى غرستها هنا.. في هذا البيت.. رويتها من حبات عرقك المتصبب وستؤتي هي الأخرى أكلها عما قريب.. انهم ابناؤك الأبرار الذين يشعرون بما تقاسي في سبيلهم، فبذلوا أقصى الجهد في دراستهم ليردوا الاحسان بالاحسان، والبر بالبر.. ها هو ابننا سامي سيقدم غدا اختباره النهائي، وإن كتب الله له النجاح سيصبح مهندسا ترفع به رأسك عالياً، وأما سامية فهي الاخرى تقدم اختبارها الاخير وستحوذ على شهادة التوجيهية، وباقي الابناء يبذلون ما في وسعهم للحاق بإخوتهم.. هذه غراسك يا ابا سامي.. عما قريب ستستظل (بظلها وتجني من ثمارها).
وتستولى عليه الدهشة.. كأنه يسمع لأول مرة أنه له ابناً سيتخرج هذه الايام من كلية الهندسة ويقول: (صدقيني يا ام سامي ان التعب قد استحوذ علي حتى إنني أحيانا لا أفطن الى ما يدور في هذا البيت.. بارك الله فيك أيتها الزوجة البارة، فلقد أورثت في كلماتك النشاط، وبعثت همتي، وطردت التعب الىغير رجعة، ما هذه السعادة التي تملأ نفسي الآن؟ انهضي بالله عليك وادعي الاولاد ليتناولوا معنا الطعام.. كأن لي زمنا لم أنعم برؤيتهم.
وتحضر الام طبقا وضعت فيه ما تيسر من رزق ذلك اليوم، ويحضر الاولاد الذين التفوا حول أبيهم الذي كان يرد على تحيتهم ولسانه يلهج بالدعاء أن يكلأهم الله بعناية من عنده وأن يوفقهم فيما هم ماضون إليه.
وماكادوا يتذوقون الطعام، حتى دق الباب.. فهرع سامي ليفتحه، فإذا به وجهاً لوجه امام علياء.. ابنة الجيران التي جاءت تذاكر دروسها مع أخته سامية.. فيتسمر سامي في مكانه.. وتتجمد الكلمات على لسانه.. ولم يجد إنذاره الى قلبه فسارع الى الخفق.. (تفضلي، فسامية في انتظارك.. ادخلي).
ويعود سامي الى حيث كان.. فلم تمتلئ المعدة بعد.. لكن إحساسا غريباً داهمه.. فمنذ أن رأى علياء وشعور خفي يداخله كأنما سقط عليه.. ولكنه لا يستطيع التملص منه هذه المرة.. فلم يعد القلب وحده الذي يخفق الآن، بل اكثر من ذلك حركاته، وتعابير وجهه.. وكأن الأم قد سبرت غور ابنها، فقطعت كل شيء، وقالت بصوت ملؤه الحب والحنان: (كم أتمنى أن تكون لك زوجة كعلياء، بل يا حبذا لوكانت علياء موضع امنيتي.. انها علياء في أخلاقها.. انها أكثر أخلاقية من الأخلاق.. وفي جمالها، فما يذكر الا وينحني إكبارا لها.. وأما روحها، فلم ألحظ بين الفتيات أخف ولا أنبل من تلك الروح.. ولكن). وتسكت الام كأنما صفعت.. وكأنما سامي قد استبطن أعماقها وقال: (ولكن يا أماه.. اين نحن من علياء ومن أهل علياء؟ فهم يسكنون أعلى الجبل.. أما نحن ففي اكثر الأودية انحداراً.. لا جدوى من المقارنة يا أماه).
كان لتلك الكلمات وقع بالغ الأثر.. كأنها طعنات بالغة المضاء وجهت الى قلبي الاب ، فبدت على الأب علامات الأسى والألم, والأم أشرفت أن تذرف الدمع الطاهر.. لكنها صبرت وما أشد أن يصبر الجمل!.. تجرعت دموعها وألحقت ابنها ببعض الكلمات: (هون عليك يا ولدي.. غدا ستصبح مهندساً
كبيرا.. وستكون من نصيبك باذن الله), وتتسرب الكلمات الى مسامع سامية وعلياء, وكأن علياء أدركت كنه الكلام وقالت من صميم أحاسيسها وعلى غفلة من أمرها: -إن شاء الله- هكذا غلبتها عاطفتها، وشعورها كان أقوى من ان يظل مخفيا.. وفجأة انتبهت.. فوجدت سامية الى جانبها.. وادركت انها افصحت بما لا يليق بالادب حتى ولو كان واقعاً.. فشعرت بالحرج، وحمرة من الخجل انطبعت على وجهها، واضطراب شامل هز كيانها.. لكن سامية أنقذتها من كل هذا وقالت: (شكراً للطفك يا أختاه وان شاء الله سيحقق النجاح و....).
وتستأذن علياء.. وتسرع سامية لتعلن ما حدث الى سامي.. فيستقبل الخبر بمزيج من الاستغراب والفرح وقال لأخته: (غداً سأتقدم لآخر اختبار، ولا يعنيني في هذه الدنيا شيء الآن سوى أن أحقق النجاح.. انه المقدمة الاساسية لكل شيء).. ويذهب سامي، ويجلس في زاويته التي اعتاد أن يذاكر فيها دروسه.. انه يحاول أن يلتهم كلمات الكتاب، واشكاله الهندسية.. لكن قلبه بدأ يخفق أكثر من كل مرة.. انه لا يستطيع إخفاء شعوره، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً حيال ذلك.. لكنه يجبر قلبه على الصمت.. فالدراسة والنجاح أولا وقبل كل شيء.
وظهر اليوم التالي عاد سامي من الاختبار وبشائر النجاج تكسو وجهه.. لقد انتهى الآن من الحمل الثقيل.. وعما قريب سيصبح مهندسا.. وتمر الأيام.. كل انة كأنها دهر.. فانتظار النتيجة يستدعي التوتر والقلق.. حتى كانت تلك اللحظات التي جاءت فيها علياء كعادتها الى زميلتها سامية.. واذا بالاسرة كلها مجتمعة.. ولم تستطع أن تكتم فرحتها.. (مبروك ياعم أبوموسى مبروك يا عمتاه .. ومبروك يا سامي.. ابارك لكم جميعاً).. وتندهش ام سامي وتقول: (ماذا تقصدين يا ابنتي؟) فتقول علياء: (الم تقرأوا صحيفة اليوم؟... لقد أعلنت النتائج.. نتائج كلية الهندسة.. وكان اسم سامي على رأس القائمة...) وما كادت تتم هذه الكلمات حتى طفح السرور على وجوه الجميع.. كأنما انتشلوا من هوة سحيقة.. لقد أصبح سامي مهندساً.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved