استبشرنا خيراً بعد الاتفاق الفلسطيني الذي شهدته قمة شرم الشيخ الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين عندما أعلنت أطراف القمة عن التوصل إلى (نبذ العنف) والاحتكام إلى طاولة المفاوضات، وشعرنا أن هذه القضية المعقدة والشائكة التي كانت في الماضي تتقدم خطوة إلى الأمام لتعود عشر خطوات إلى الخلف، بدأت تأخذ مساراً جديداً وجاداً بعد أن تولى دفة السفينة أبومازن، الذي كان يراهن - حتى قبل انتخابه - على الحلول السياسية، لا الحلول الدموية والعنف والقتل والتدمير. غير أن هذا الاتفاق ما كاد يلوح في الأفق حتى انبرت له (بالتخريب) الحكومة الإسرائيلية عندما قتلت بعيد إعلان الاتفاق بيومين فلسطينيين لتنتهز الفرصة في المقابل (حماس) وترد بإطلاق قذائف هاون على عدد من المستعمرات الإسرائيلية، وتعلن في بيان لها إثر تبنيها لعملية قذائف الهاون: (إنها ستواصل هذه الهجمات إلى أن يخرج العدو الصهيوني ذليلاً من الأراضي الفلسطينية)، ثم يخرج محمود الزهار أحد قياديي حماس ليعلن على قناة العربية أن قذائف الهاون كانت مجرد (دفاع عن النفس). وبين ذريعة (الدفاع عن النفس) تارة وذريعة (إخراج العدو ذليلاً) تارة أخرى يبدأ مسلسل العنف المتبادل مهدداً قرارات قمة شرم الشيخ تهديداً حقيقياً. ورغم اختلاف (شارون) مع حركتي (حماس) و(الجهاد) في كل شيء إلا أنهم يتفقون على نقطة جوهرية مؤداها (تخريب) أي عملية للسلام، رغم التباين في الأهداف والدوافع بين شارون من جهة وبين حماس والجهاد من جهة أخرى فجميعهم يريد (سلاماً) مفصلاً على شروطه وقياساته ومصالحه وهو بالتالي ليس لديه أي استعداد للتنازل أو التحرك قيد أنملة في اتجاه الآخر وغني عن القول ان أية مفاوضات سياسية لا تكون أطرافها على استعداد من حيث البدء للتنازل عن بعض (شروطها) والسير نحو الآخر لتضييق الهوة بين الطرفين أملاً في تحقيق اتفاق يكون مصيرها للفشل الحتمي. الأمر الآخر الذي هو أحد بواعث حماس (الإجهاض) اتفاق شرم الشيخ الأخير يعود في تقديري إلى أن أي تقدم في عملية السلام هو انتصار لأبومازن، وبالتالي لحركة (فتح) ومثل هذا الانتصار سيضعف من جماهيرية حماس والجهاد اللتين تستمدان شرعيتهما من العنف والمقاومة المسلحة وهذا ما لاتريده هاتان الحركتان. كما أن شارون لا يريد السلام لأسباب أيديولوجية محضة تعود لعقيدة حرب الليكود السياسية: وكان رضوخه للاجتماع بالقمة الفلسطينية والمصرية وكذلك الأردنية في شرم الشيخ لا يعدو أن يكون (تكتيكاً) سياسياً لا أكثر فبعد أن واجه ضغوطاً عالمية وبالذات من الإدارة الأمريكية لتحريك عملية السلام مع القيادة الفلسطينية الجديدة كان يعول على ان بإمكانه رغم هذه الضغوط (التنصل) من أي اتفاق ينتج عن هذا الاجتماع متى شاء نتيجة لأن حماس أو الجهاد، أو هما معاً ستعطيانا الحجة لخلط الأوراق والتملص من أي وعد سيقطعه على نفسه من خلال إدراكه أن المستفيد من إبقاء قضية السلام في وضع (مكانك تحمد) ليس شارون فحسب وإنما هذان الفصيلان على وجه التحديد أيضاً. ومع أن أبو مازن قد اختار أسلوب التفاهم و(الحوار) مع الفصائل الفلسطينية، ومنها هذان الفصيلان، قبل البدء في العودة إلى طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين إلا أن هذا الأسلوب - أعني أسلوب الحوار - لم يعد مجدياً على ما يبدو، ولابد بالتالي مما ليس منه بد وهو أسلوب القوة والحزم والحسم والمواجهة، وإظهار أن الإدارة الفلسطينية الجديدة التي جاءت إلى السلطة من خلال الانتخابات لها (أنياب) أيضاً وتستطيع بأدواتها وقوى أمنها ومساندة العالم كله لها أن تفرض (قراراتها) بمنطق القوة، مهما كانت النتائج والتبعات. وهذا ما يبدو أن الرئيس الفلسطيني الجديد سيقدم عليه (مضطراً) بعدما وضعته العملية الأخيرة لحماس في موضع هو أشبه مايكون بموضع (الاختبار) لقوة سلطته ومدى قدرته على التعامل مع معطيات وتحديات وتعقيدات وتداخلات القضية الفلسطينية الإسرائيلية ولعل إقالته الأخيرة لعدد من أهم القيادات الأمنية الفلسطينية العليا بعد عملية قصف المستوطنات الأخيرة هو على ما يبدو إيذان بعزمه الحاد على الإمساك بخيوط اللعبة السياسية في الداخل الفلسطيني بقوة لإضعاف ممارسات (الانتهازيين) والمتاجرين بالعنف وفي المحصلة تجريد (شارون) من ذرائعه ليكون قادراً ومؤهلاً لمواجهة إسرائيل، وإرغامها على السلام والتفاوض أملاً في تحقيق الدولة الفلسطينية المنشودة.
|