يمر الاقتصاد الدولي في مراحل جديدة مهمة ستغير معالمه لعقود طويلة قادمة. يشهد العالم اليوم تغيرات في الاتجاهات التالية: صعود الصين كقوة اقتصادية دولية، سقوط الدولار كاحتياطي نقدي عالمي وصعود أوروبا والهند كقوتين اقتصاديتين دوليتين. أما دور المنطقة العربية ومستقبلها فيرتبطان بعوامل الانفتاح الاقتصادي والأمن والنفط. هنالك مؤشرات إيجابية، ليس فقط في دول الخليج العربي وإنما في المجموعة العربية ككل، على رغبة واضحة في التعاون والتنسيق الاقتصاديين بهدف توسيع الأسواق الداخلية أمام المستثمرين. مازال العالم العربي متأخرا في معظم الركائز الأساسية لأية مجموعة اقتصادية مشتركة ناجحة، وهي أوضاع المصارف والتأمين والاتصالات والنقل والمعلومات والجمارك وغيرها. العالم العربي متأخر في تطوير قوانينه ومؤسساته، ولايمكن بناء وحدة اقتصادية دون تحديث الركائز. أما الأمن فيرتبط تحقيقه بما يحصل في العراق وفلسطين وهما موضوعان في غاية التعقيد والتقلب. يبقى موضوع النفط ذي السعر المتأرجح الذي يتفق الجميع على دوره الكبير في تسيير عملية النمو الاقتصادي الدولي. هنالك اتفاق ضمني على تحقيق الشروط الثلاثة التالية فميا يخص النفط وهي: أولا، يحتاج العالم إلى النفط لتأمين عمل الدورة الاقتصادية استثماريا واستهلاكيا إذ لا يمكن العيش حاليا بدونه، لذا يجب الاستمرار في إنتاج ما يطلب؛ ثانيا، يجب التنبه إلى البيئة بحيث لا يسيء الإنتاج والاستهلاك النفطي إلى الطبيعة، لذا يجب تطبيق كل المعايير البيئية الحديثة؛ ثالثا، لايمكن معالجة المواضيع الدولية البيئية بما فيها السخونة الأرضية إلا عبر تعاون المنتجين والمستهلكين لمصلحة الجميع عبر اتفاقية (كيوتو) وبعدها. يتحدد السعر الأفضل لبرميل النفط كما كمية الإنتاج المناسب، ضمن أوبيك وخارجها، عبر السوق تأمينا للمصالح المذكورة. أولا: ركائز التفوق الصيني في النمو والصادرات بحيث أصبح مقلقا للجميع بما فيه أمريكا واليابان. يتحقق النمو الصيني الاستثنائي مع أجور ثابتة، وهذه تجربة جديدة لم يشهدها العالم من قبل. يذكرنا هذا الواقع بالنزاع السابق الحاد بين الولايات المتحدة واليابان وخشية أمريكا منها كمنافس اقتصادي دولي. (التحدي أو الخطر الياباني) كان يشغل بال الأمريكيين دولة وأعمالا وأفرادا وجامعات بحيث تركزت الجهود على منافسته إلى أن تعثرت المسيرة اليابانية لأسباب مالية ومصرفية داخلية. الفارق بين الوضعين الياباني والصيني هو أن مصدر النهوض الياباني كان في معظمه داخليا ومرتكزا على التكنولوجيا الوطنية المتطورة. أما النهوض الصيني فيعتمد إلى حد بعيد على الاستثمارات اليابانية والأمريكية والأوروبية مستفيدة من اليد العاملة وسعر الصرف والبنية التحتية الجيدة والأسواق الداخلية الواسعة والانفتاح الاقتصادي المتزايد والمناخ السياسي والاجتماعي المناسب. تتوجه الصناعة الدولية أكثر فأكثر إلى شرق آسيا وخاصة الصين مما يشير إلى حدوث سوء توازن اقتصادي عالمي في المستقبل القريب. زادت الصادرات الصينية من ملياري دولار في سنة 1970 إلى 438 مليار دولار في سنة 2003م. فبينما كانت تشكل الصادرات الصينية 4.65% من قيمة الصادرات الأمريكية في سنة 1970م، أصبحت تشكل 60.5% منها في سنة 2003م. أما نسبة الصادرات الصينية من اليابانية، فزادت من 10.52% في سنة 1970 إلى 92.8% في سنة 2003 أي تقريبا نفس القيمة. أما نسبة الصادرات الصينية من المجموع العالمي، فتطورت من 0.8% في سنة 1970 إلى 5.9% في سنة 2003 مقارنة بـ 6.3% لليابان و9.7% للولايات المتحدة. المهم أيضاً هو أن هيكلية الصادرات الصينية تتغير من السلع الزراعية والحرفية البدائية إلى ذات التكنولوجيا المرتفعة مما يؤشر إلى تفوق الصين قريبا في قيمة الصادرات على أمريكا. تدل الإحصائيات المتوافرة لسنة 2002 على أن العملة الصينية هي أدنى من قيمتها الحقيقية بنسبة 83% مما يفسر جزئيا النجاح التصديري. إلا أن الصين تستفيد كما ذكرنا من عوامل أخرى مهمة تجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي بلغت قيمتها الصافية 49 مليار دولار في سنة 2002م. حتى لو ارتفع اليوان، لن تتأثر الصادرات الصينية كثيراً لأهمية العوامل الإيجابية الأخرى. كما أن الصناعة الصينية أصبحت مميزة دوليا بنوعيتها وتصاميمها وتتغير هيكليتها أكثر فأكثر نحو السلع المتطورة. ما تخسره الصين من صادرات، إذا حصل، يمكن أن تعوضه في أسواقها الداخلية الشاسعة التي تتطور وتتسع وتزدهر مع الوقت. ثانياً: سقوط الدولار في الأسواق النقدية وتدني جاذبيته كاحتياطي نقدي. أمريكا، بسبب عجزي الموازنة وميزان الحساب الجاري تقترض لتمويل استهلاكها. في سنة 2003م اقترضت أمريكا 531 مليار دولار من آسيا (309 مليار دولار) والدول الغربية (أي أوروبا وكندا 96 مليارا) والدول المصدرة للنفط (71 مليارا) وغيرها (55 مليارا). يبلغ عجز الميزان التجاري مع الصين وحدها مئة مليار دولار ولا يمكنها إنتاج السلع المستوردة (ألعاب، قطع سيارات، حواسب وغيرها) بنفس التكلفة والجودة حتى لو ارتفع سعر صرف اليوان. ليس في مصلحة أمريكا إنتاج ما تستورده من الصين، بل عليها التركيز على إنتاج السلع ذات التكنولوجيا العالية جداً أو المتفوقة. هنا تكمن الأفضلية المقارنة الواضحة للأمريكيين. تطور الاحتياطي النقدي الدولي من 1781 مليار دولار في سنة 1999 إلى 3014 مليار دولار في سنة 2003م. انخفضت حصة الدول الصناعية منها من 43.3% في سنة 1999 إلى 39.6% في سنة 2003م. بينما كانت حصة آسيا ضمن مجموعة الدول النامية والناشئة تشكل حوالي 62% في سنة 1999، أصبحت تشكل حوالي 64.8% في سنة 2003 مما يدل مجددا على التغير الحاصل في الجغرافيا الاقتصادية الدولية لصالح آسيا. سقوط الدولار يدفع الدول الآسيوية إلى تبديل أصولها من دولار إلى يورو وغيرها من العملات الدولية حفاظا على القيمة. ثالثا: صعود المجموعات الأخرى وفي مقدمتها أوروبا والهند التي بفضل تنوعها الديموغرافي تشكل مجموعة حضارية بحد ذاتها. يرتكز الاقتصاد الأوروبي على اتفاقية ماستريخت المحددة لهوامش السياسات المالية، لكنها غير مطبقة بسبب مخالفة الكبار لها. من المتوقع أن تعدل خلال هذه السنة بحيث يصبح تطبيقها محتملا أكثر. بأهمية المواضيع المالية، لابد من التنويه بالتفوق الأوروبي في ميادين أخرى صناعية وإنشائية التي تشكل مصدر حيوية أساسيا لمستقبل أوروبا. من هذه الإنجازات ما حققته شركة ايرباس الحديثة نسبيا والتي تنافس بنجاح شركة بوينغ وتفوز عليها أحياناً. من هذه الإنجازات أيضا القطارات السريعة التي تربط الداخل الأوروبي بعضه ببعض كما تربط فرنسا ببريطانيا. لا بد من ذكر الجسر المدهش المنشأ حديثا في جنوب فرنسا الذي يسهل الانتقال إلى الشاطئ الجنوبي. ادخال دول جديدة إلى أوروبا سيغنيها أكثر فأكثر مع الوقت وسيسمح لها بتجديد نفسها دون أن تترك المبادئ الإنسانية الأساسية التي بنيت عليها. أما الهند، فيرتكز نموها على الإنتاج التكنولوجي الذي تفوقت به بفضل جامعاتها وعمالتها. التحدي الاكبر الذي تواجهه الهند هو مقدرتها على المحافظة على نموها الحالي المقدر بـ 8.3% سنويا. تعتمد قوة الاقتصاد الهندي على مجموعة عوامل أهمها نسبة الأراضي القابلة للزراعة والتي تصل إلى 54% من المجموع مقارنة بـ 13% فقط للصين. 34% من الهنود هم دون الـ 15 سنة مما يوفر يدا عاملة كثيرة ونشطة تتمتع بالانضباط وتعمل بصمت. عدد سكان الهند يفوق الميار نسمة مع نمو قوي يبلغ 1.5% مقارنة بـ 0.73% للصين. ستضطر الهند إلى تصدير عمالة أكثر إذا لم تحسن استيعابها في الاقتصاد الوطني. أخيراً، إن الإصلاحات المطبقة بدأت من عام 1991 بالإضافة إلى الاستثمارات الغربية الكبيرة الموظفة ستجعلان من الهند قوة اقتصادية كبرى في حوالي عقد من الزمن.
|