لن تنجح الديمقراطية في كثير من المجتمعات التي لا تعطي أهمية لمسائل الفكر، ولا حتى طرق التفكير، حين تبدو معظم هذه المجتمعات خاوية فعليا من أدوات الحوار وطرق التفكر الفعلية فيما حولها. لنأخذ التجربة على أنها في المهد، وأن الوضع الذي يشي بمثل هذه الطرق وتوسيع المشاركة إنما هو خطة لاستثمار حاجات الشعوب وصياغتها ضمن الخطط لمؤسسات الدول، التي لا يمكن أن تبقى هي الأخرى بمعزل دائم عن أرق شوارعها وضجيج المطالب الذي لا يمكن لها سماعه كل حين. المأخذ الوحيد على بدايات مثل هذه التجربة، رغم الحذر الذي يحيط بها، هو تهيئة الإنسان، قبل الزج به مباشرة في دائرة المسؤولية، ولنا أن نسأل: هل توّحد العامة بزي المسؤولية العامة أيضا؟ وعندما نفتح قناة للاستماع إلى مطالب المواطن، فمن أين سيبدأ.. بنفسه أم بالشارع الذي يقطنه، أم سيشكو فجأة جاراً مهما يتعرض منه للإيذاء ولا يستطيع مقاضاته؟ تفاصيل كثيرة، لكن المهم ترتيب هذه الأوليات بمسؤولية ووعي ايضاً. حاجة الفكر للبناء والتأهيل أهم بكثير من الحاجات العامة والمبهمة، ولنكن أكثر انفتاحا تجاه حقائقنا المعاشة، وطبيعة المجتمع الذي يجد حساسية شديدة تجاه كل متغير وجديد، مثل هذه المسائل لا يمكن لها أن تأتي بحلولها معها، ما لم تفتح أبواب الثقافة للجميع، وأن التأهيل الفكري وبناءه عامل مواز تماما لمسائل التأهيل المهني والإداري، إن لم يكن أهم، حين أشغلتنا مثل هذه الحاجات وبتنا نخترع السبل لحل مشاكل البطالة وما يتبعها من إحباط جثم على صدورنا فجأة. الحقيقة الأخرى أنه على أهمية وزارة الثقافة والإعلام، إلا أن الثقافة بنفسها تحتاج إلى وزارة مستقلة، تستطيع التفرغ منفردة لكل ما يتعلق بالفكر، وأن تفتح المسارح ودور الثقافة شيئاً فشيئاً، حتى يتمكن الفكر البسيط الخروج من طريق واحد، ومنطق واحد، كما أن عملية البناء الفكري، والتي تعتبر ثروة وقيمة الإنسان، لا يمكن لها أن تنمو في محيط بسيط وعادي يوزع عليها الأدوار كجزء تكميلي يرتبط بالمناسبات الثقافية النادرة. وكما نحرص على العناية بمظهر المدينة ونلقي ضوءاً شديداً على تهذيبها الخارجي، علينا أن نستخرج من جوفها هذا الإنسان، وكيف يقضي يومه خارج ساعات العمل وأدوار الحياة العادية؟ كيف يمكن لنا فتح العقول خارج أطر التعليم، وعند نقاط التفكر وقراءة ما حولنا؟ عندها نجد أن بعضاً من المطالب العامة والعصرية يمكن أن تتداخل مع عناصر الحياة التي لا تبقى على وتيرة واحدة، وأن التجارب المصغرة لأي شكل من أشكال الديمقراطية وحرية التعبير ستكون أفضل إيقاعا وأداء إذا اقترنت بفكرنظيف ذي مرونة مطاطية، تخرج به من أنفاق اللون الواحد والنكهة الواحدة، والفكرة الواحدة. أخيراً علينا أن نقيس تجارب آنية في فهم منطق عملية الديموقراطية في العالم الثالث، وأنها كي تكون مقنعة للبعض المحدود فكرياً، فإنها تصاحب بميكرفون يسكب من خلاله المتحدث او(المعارض) لأداء حكومته كل مفردات قاموس الشتائم وأن اكتشاف الأخطاء أو تفنيدها لدى أصحاب هذا الفكر لابد أن تدخل إلى بيوت المسؤولين وتروي تفاصيل بيوتهم وماذا يأكلون وأين يستجمون!!. كل هذه المحاور بعيدة جداً عن حقيقة الفكر المتحرر من نفسه وأهوائه وثقافته المحدودة، وهذا كله لا يمكن له أن يأتي ما لم نعد بناء الإنسان بدءا بعقله ومحاورته وترويض هذا الفكر أمام مشاريع الحياة الأكثر انفتاحاً واستعداداً لمقابلة الفكرة النقيضة أو المختلفة. أو لسنا بحاجة ماسة فعلاً إلى تربية فكرية أولاً؟
|