Sunday 13th February,200511826العددالأحد 4 ,محرم 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "زمان الجزيرة"

30 جمادى الأولى 1392هـ الموافق 11 يوليه 1972م العدد (399)30 جمادى الأولى 1392هـ الموافق 11 يوليه 1972م العدد (399)
في صمت وإيثار
بقلم: غالب حمزة أبو الفرج

مضت تتهادى على الأرض السمراء تجوس بعينيها الخضرة الداكنة والأشجار وقد أحاطت بالأرض الطيبة وجداول المياه الصغيرة ترسم في شكل أنيق كشريان الحياة، يمتد عبر كل رقعة من تلك الأرض في دقة وعناية.
كانت تحس بمزيد من الاطمئنان يدخل فجأة إلى قلبها الشاب، فهي تعود اليوم مرة ثانية بعد غياب طويل دام أكثر من ثماني سنوات قضتها خارج بلادها في الدرس والتحصيل، وملأت رئتيها بعبير الأرض السمراء وأخذت تتنفس في هدوء وهي تضرب بقدميها الأرض في لا مبالاة، كل شيء هنا لا يزال على حالته التي تركتها سوى العم مرزوق الذي كان يؤنس وحدتها في كل زيارة تقوم بها لهذا المكان، فقد مضى عامان من وصولها إلى أرض الوطن، مضى بعيداً وقد تلقت نعيمة الخبر وهي بعيدة.
وأحست بشيء من الغصة وهي تتذكر العم مرزوق كيف كان يؤنس وحشتها، يسير بجانبها ملقياً بحكاياه الصغيرة ونكاته اللطيفة مشيعاً في جو من الهدوء الساكن شيئاً من الحركة.
ومضت إلى الشجرة الكبيرة لتلقي عليها نظرة جانبية فلطالما حنت تلك الشجرة عليها وهي تلعب على الأرض الخضراء في براءة الطفولة، وألقت بنظرها إلى سفح الجبل القريب، حيث كان مسرحاً لأحداث تاريخية قرأتها في كتب التاريخ فمعركة أحد أشهر المعارك الإسلامية فهنا جبل الرماة وهناك قبور الشهداء من صحابة الرسول يقبعون في باطن الأرض تدل آثارهم على أيام خالدات يوم كان الاسلام يشق طريقه بالاقناع والسيوف عندما يفشل الاقناع في إلانة الرؤوس الصلدة.
ذكريات وذكريات تعود مرة ثانية للظهور أمام عينيها وهي في الطريق إلى البيت الكبير، الذي شهد مدارك طفولتها وأيام مراهقتها أيضا، فهناك كانت تمضي كثيراً من الوقت مع أترابها يلقين بأحجارهن الصغيرة ويسألونها ان تزودهم بما عليها من ثمر.
أما شجرة التمر العجوز التي استطال جذعها ثم عاد مرة ثانية إلى الأرض يشكل قوساً من أقواس النصر فهي لا تزال على حالتها كما هي في متناول اليد تستطيع أن تنال بأصابعها بعض ثميراتها بلا عناء.
كل شيء لا يزال كما هو لم يتغير طلاء البيت الخارجي، غرفة حماماته وردهاته الواسعة حتى الديوان الكبير والبركة الملأى بالماء هي الأخرى لا تزال على ما هي رغم كل تلك السنوات التي مضت.
وتطلعت إلى الأفق، ترقب مغيب الأصيل وهو يأخذ في الابتعاد رويداً رويداً مؤذنا بليل هادئ جميل تفوح من خلاله رياح الورد والياسمين التي انتظمت مدخل الدار في أناقة، واصصات الزهور التي تزرعها والدتها بيديها هي الأخرى كانها وقد بهتت ألوانها لطول المدة من جراء حرارة الشمس.
ومضت في الطريق إلى الملحق الصغير التابع للبيت الكبير الذي كانت تشغل بعض غرفاته أشياؤها القديمة لترى هل لا يزال على عهده.
واستغربت كثيراً ان تجد صورها ورسومها وحتى أشياءها الصغيرة لا تزال كما هي موجودة في دولابها القديم بجانب السرير الحديدي الذي كانت تنام عليه.
وتناولت واحداً من ألبومات الصور العديدة لتطالع بين صفحاته صور الماضي عندما كانت تعيش مع أترابها تستخدم التصوير كسجل للأيام السالفات.
وبرزت لها صورة صديقتها رجاء هذه المرة وكأنها تجسد لها كل أيامها الماضية، ونظرت طويلا إلى الصورة الصغيرة وبدأت تحادث نفسها.
ترى أين هي الآن، ولماذا لم تأت لزيارتي؟ ولكن ربما لا تدري شيئا عن مجيئي وفي الغد سأبحث عنها بعد أن أتحدث إلى والدتي عنها.
وتحدثت إلى والدتها طويلا عن صديقتها، عن رجاء وهدى وإيمان وأميمة وسعاد ونهاد وغيرهن، وعرفت بأن أكثرهن قد تزوجن وأنجبن وبقيت هي الوحيدة تنتظر أن تنضم إلى القافلة.
وفي الصباح كان أول شيء فعلته هو أن استقلت سيارتها مع أخيها لزيارة رجاء في بيتها، وكان البيت على مشارف قباء بجانب القلعة القديمة، تلك التي أحبتها رجاء وتحدثت عنها كثيراً، وكانت الدار آية في الأناقة صغيرة الحجم مشغولة بأثاث ينم عن ذوق مرهف وفي الصالون الصغير استقبلتها رجاء بالأحضان وهما يستمعان إلى نفس الأغنية تتردد في جنبات البيت بصوت جديد عليها كل الجدة.
كان الصوت لوحيد رجاء الذي أصبح في السابعة من عمره، وضحكا كثيراً واستعادا صور الماضي بكل جمالها وأحداثها، واستمر الحديث يتوالى بينهما على صورته الفريدة.
وأخيراً عدت إلى المدينة يا منى..
نعم عدت، وكنت أعتقد بأن الأيام التي أمضيتها في أمريكا كفيلة بأن تغير الكثير في بلدي ولكن، كل ما تغير هو القشور أما الأصل فلا يزال كما هو أسير عاداته وتقاليده، صدقيني يا رجاء لكم كرهت الحياة في أمريكا والتقدم الذي شهدته لا لشيء إلا لأنه تقدم يعيش على التقاليد.
أحقاً ما تقولين ونحن الذين نحسدك على قدرته على الدراسة وتلقي العلم..
لقد كانت السنوات التي أمضيتها فريسة الوحدة رغم كل ما يحيط بالحياة في لوس انجلوس من صخب لا صديقة لي سوى واحدة جاءت من عمان، تمت إليّ بصلة القرابة من الأم، فأمها من بيت المسعود الذين هاجروا منذ سنوات إلى الأردن.
كانت هي وحدها التي أستطيع أن أشعر بهدوء نفسي معها أما الأخريات فقد كن أسيرات صرعات الحياة التي يعيشونها، ولطالما تحدثت إلى المشرفة عما ألاقيه من وحدة ولكنها كانت بعد كل شكوى تتبسم وتقول لي ستتعودين على الحياة يا منى.
وهأنذا وبعد أن تسلمت شهادة الماجستير في التربية عدت إلى بلدي مرة أخرى ولكن لا أدري كيف أبدأ.
تبدئين كما بدأت كل فتاة تعلمت وتشاركين في إقامة هذا الصرح الضخم الذي يشاد في كل مكان من دنيا بلادنا الواسعة.
ولكن رغبتي في التدريس يحوطها شيء من الغموض، فأنا على الرغم مع كل ما درست أجد نفسي غير قادرة على القيام بأعباء هذا العمل، في مدرسة ثانوية أو ابتدائية، لقد تعلمت يا رجاء لأشارك في بناء أول جامعة للبنات في بلدي، ولكن والدي عازف عن هذه الرغبة فهو يريدني إلى جانبه وأنت تعرفين ما معنى البقاء إلى جانبه، فأنا إن كنت أحب من كل قلبي البقاء إلا أن مجرد فكرة التدريس في مدرسة ثانوية هي دون أحلامي الكبيرة.
أنت دائماً مع أحلامك الكبار تعيشين يا منى:
وأنت يا رجاء ألست أيضاً قد عشت أحلامك لقد تحقق لك البيت والزواج والود، وأصبح كل شيء في متناول يديك.
ربما يا منى، ولكننا معشر البشر لا يتوقف طموحنا عند حلم واحد، فأنا أطمع اليوم في أشياء كثيرة أطمع في أن أرى زوجي وابني في المكانة التي أريدها لهما وهأنذا أحاول أن أفعل المستحيل من أجلهما وفي صمت.
وضحكا سويا ثم عادا للثرثرة في أشياء صغيرة خرجت بعدها منى إلى البيت الكبير لتقابل في حزم والدها العجوز، فلقد قر عزمها على العودة لنيل الدكتوراه، فلربما ستعود بعد نيلها هذه الشهادة لأن تكون واحدة من رائدات التعليم الجامعي في كلية البنات الجامعة واستقر رأيها في ان تفاتح أباها في هدوء وأن تقنعه بالعودة إلى أمريكا.
فقضاء عامين ليس بالمدة الطويلة ولكنها على اية حال لبنة من لبنات التقدم في هذا البلد الذي أخذ على عاتقه أن يمضي نحو إيجاد الحياة الكريمة لجميع مواطنيه.
وفي البيت الكبير أخذ الحديث بينها وبين والدها بين كر وفر وكأنها تحاول بأسلوبها الجديد أن تشيع الطمأنينة في نفس ذلك الرجل العجوز الطيب الذي لم يترك الفرصة مطلقاً لفتاته في أن تنال ما تريد ما دام ما تريده وسيلة من وسائل بناء مجتمعها.
وأخيراً استطاعت أن تقنعه بصدق رغبتها فأذن لها أن تمضي وملء عينيه دموع الحب والفرح ومضت منى في الطريق إلى الطائرة تحمل حقيبتها الصغيرة وعلى وجهها ابتسامة الرضا وفي داخل نفسها حلم من أحلام حياتها.
فهي تسعى لأن تكون واحدة من بنات هذا الجيل اللواتي يقدمن أنفسهن لخدمة بنات جيلهن في صمت وايثار.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved