قال جويبر: إن رجلاً فقأ عيني مصباح الاثنتين فكانتا كالزبيبتين؛ فما كان من مصباح إلا أن أخذ مسماراً من وهج النار فرسم به عين من فقأ عينيه فأصابها العمى؛ فسبق صاحب العين الواحدة واشتكى الى سيد العشيرة؛ فغضب من تصرف الرجل الذي فقأ عين المشتكي وأمر به أن يحبس ويذاق العذاب الأليم. بقي مصباح بعينين مظلمتين في السجن ولم يستطع ايصال مظلمته لسيد العشيرة حتى هلك ميتا من الغبن؛ هكذا روى لنا الراوي عن تلك القصة في أدب الحوار وأدب التقاضي أو التغاضي. ومن أدب الحنشل سابقاً أو من طرفهم؛ أن ثلاثة أتوا إلى صاحب حمارة فأخذوها منه عنوة؛ فلحق بهم من بعيد حتى وصلوا مضاربهم؛ فإذا برجل يصلي بهم العصر؛ فسأل المسلوب بعد الصلاة عن سيد العشيرة؛ فقيل: ها هو الذي يصلي بهم؛ فقام واقفا وموجها حديثه لسيد العشيرة الذي لا زال يقول: استغفر الله.. استغفر الله؛ ويستعمل أصابعه في التسبيح؛ فقال المظلوم بكل قوة وجرأة: هؤلاء الثلاثة سلبوا مني حمارتي ولم يردوها لي. وأشار إليهم. فقال سيد العشيرة: ردوا عليه حمارته. قالوا: لقد كسبناها منه. فقال وهو يتابع استغفاره: ردوها.. ردوها.. لو أردتم أن تكون كسبا لكسرتم رقبته لئلا يشتكي. ثم تابع استغفاره!!. الطرف الواحد الذي يبدو أمام الطرف المقرر هو لب المشكلة؛ لأنه يستمع اليه ويقرر دون أن يستطيع الثاني المواجهة للتهمة؛ وذلك أن أساليب الخبثاء تتنوع في فن الادارة الحديثة؛ فهم قد اخترعوا ما يخدمهم من الخطابات التي تسمى (سري) أو (سري للغاية) وهو خبث منهم وتحايل على من يقررون وعلى ما يريدون أن يجعلوه كبش فداء دون أن يعلم؛ كي لا يدافع عن نفسه؛ ولذا جاءت وظيفة صاحب المكتب السري وظيفة صعبة التناول والتنازل معا؛ فهو ممن يشترط فيه أن يكون حافظاً وواعياً وصامتاً وأطرش وأبله وخبيثاً وحسن الحنكة وحسن الابتسامة وجميل الخلق.. الخ الشروط التي من أهمها أن يجيد الطباعة للخطابات السرية على الآلة الكاتبة أو الكمبيوتر الآن لئلا تنتشر. إذن هناك حلقة مفقودة في فن أو علم أو ممارسة الإدارة؛ وخاصة الوظائف العامة لأن رئيس أدنى دائرة صغيرة حتى لو لم تكن إلا ثلاثة مكاتب لا بد أن يجعل له (مكتباً سرياً) أي أن الأوراق التي تخرج لا يعلم عنها الباقون شيئا؛ حتى ولو أنها ورقة لطلب اضافة عامل لمكتبه؛ فلا بد أن يستعمل لها (سري) !!. وصاحب القرار قد ينطلي عليه التدليس ويقرر دون أن يتأكد؛ لأنه يثق في مدير القطاع أو الجهة ثقة قد لا تكون في محلها؛ وننسى كلنا قولا جميلا لعمر بن الخطاب حينما قال لقاضيه: إذا أتاك الرجل يشتكي وقد فُقئت عينه؛ فلا تحكم له دون الخصم فربما فقئت كلتا عينيه. هذا الذي كتبته هو بناء على رسالة من موظف في دائرة عامة قال فيها: إن رئيس القطاع كتب عني تقريراً سرياً لم أعلم به إلا بعد أن حرموني من الترقية؛ وذلك لكي يترقى قريبه.. قلت: فلنتق الله الذي يعلم (السر وأخفى) .
فاكس 2372911 |