* بقلم د. فيصل بن صفوق البشير المرشد(*) : يدرس المبتدىء في علم الاقتصاد (علم المنطق) مصطلحات يغلب عليها البساطة من حيث سهولة فهمها، حتى لا يفزع المبتدئ، ويهرب من دراسته، وتدرس بشكل مسلمات لا يرقى إلى صحتها الشك، وحين يستفسر الطالب النبيه عن منطق تلك المسلمات أو بعضها يجيبه أستاذه الشاطر بأن ما عليه الآن إلا قبول هذه المسلمات، وحين تتسع مدارك الطالب وتزداد معرفته يجد أن الاستثناءات كثيرة لأن الشروط المطلوبة لصحة تلك المسلمات معقدة. يدرس الطالب أن تحديد مستوى السعر النهائي لأي سلعة والكمية المنتجة منها يحددها منحنى الطلب والعرض ولا يعطى لغرض التبسيط، أي فكرة عن ان منحنيات الطلب والعرض كثيرة منها ما هو مرن وسريع التجاوب كرد فعل لأي تغير في السعر أو الكمية أو الاثنين معا، وبعضها غير ذلك، ويبدو أن هذه الطريقة في التدريس، طريقة التبسيط، والمصطلحات التي أفرزتها للطالب المبتدئ كخطوة اولى لفهم علم الاقتصاد دخلت قاموس الحياة العملية وأصبح كثير من البشر يؤمن بها ناسياً أو متناسياً الشروط الواجب توفرها والاستثناءات التي لو ذكرت لجعلت من حجة المتحدث هباء منثوراً. نسمع ونقرأ عبارات هو (اقتصاد حر) أو هو اقتصاد يدار بطريقة نظام الاقتصاد الحر وكل يفهمه حسب ما يشاء وليخدم غرضاً في نفسه، فبعضهم يفهمه على أنه عدم تدخل الدولة في إدارة النشاطات الاقتصادية، وبعض آخر يفهمه بأنه يحرم على الدولة الدخول في الاستثمارات المباشرة لبناء كيانات اقتصادية منتجة للسلع والخدمات. وآخرون مقتنعون بأنه يحرم ملكية الدولة (القطاع العام) لوسائل الإنتاج، وبعض كأنه يقول: إنه نظام بلا ضوابط تحكمه (الحرية المطلقة)، والبعض يؤمن بأنه يقدس الملكية الخاصة ويحرم تأميمها حتى لو أضرت بالصالح العام. والكل يدافع عنه بأنه يترك لعملية السوق عملية العرض والطلب، وتلك اليد السحرية (اليد المنظمة) لتفعل فعلها الخير في النهاية ويتناسى أن نجاح هذه العملية يتوقف على التحلي بصفات النظام الاقتصادي الحر الحقة، وأن عامل الزمن (متى التوازن) يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. ونقرأ وكأن هذا المصطلح بالذات هو واحد يتصف بصفات واحدة في كل مكان وزمان، غير أننا نعلم أن النظام الاقتصادي الحر في أي بلد كان ما هو إلا نتاج لتجارب ذلك البلد ليخدم بيئة ذلك البلد بالذات، فنظام الاقتصاد الحر للولايات المتحدة الامريكية الآن يختلف عن ذلك النظام الذي أجاز تأميم السكك الحديدية فيها حين كانت مملوكة من قبل الهولنديين. والنظام الاقتصادي الحر في السويد وبريطانيا في الستينيات الميلادية كان أقرب إلى صفات النظام الاشتراكي في اوروبا الشرقية منه إلى نظام الاقتصاد الحر الرأسمالي في الولايات المتحدة الامريكية، إن زبدة القول: هي إن كل بلد من خلال تجاربه يخلق النظام الاقتصادي الذي يعتقد أنه الأحسن لبيئته من أجل رفاهية مجتمعه بغض النظر عن تطابق أو تشابه الاسماء، وانظر إلى هذه الأيام وكيف أن ثلاث دول سارت على طريق الاصلاح الاقتصادي بتغيير النظام الاقتصادي إما كلية أو جزئياً فجأة أو تدريجيا أو حاولت أن تخلق نظاما مختلفا تماماً، او هكذا خيل لها. انهار الاتحاد السوفياتي لأن اقتصاده لم يستطع أن يستمر منتجا معطاء لأن أساسيات هيكله وطريقة إدارته كانت ضعيفة جداً، ونظراً لتقوقعه الايدولوجي وتحت وطأة المصروفات العسكرية الباهظة انهار بسرعة، ولإصلاح الوضع قررت القيادة فجأة التحول إلى نظام السوق (نظام الاقتصاد الحر) بدون مقدمات أو استعدادات فدفعت روسيا والدول الاخرى السابقة في الاتحاد السوفيتي ثمن التحول باهظاً، وما زالت اقتصادياتها تعاني من التشوهات الهيكلية الجسيمة التي تعيق انطلاقها بقوة. أما الصين فسبرت طريقها تدريجيا ولم تعلن أنها تتحول إلى نظام الاقتصاد الحر بل تصر بين الحين والآخر على أنها لن تتخلى عن مبادىء الثورة، ولن تغض النظر عن تعاليم الكتاب الاحمر (العظيم)، وتركت سراً وعلانية أحياناً افرادها ومجتمعها بالسير بحرية اقتصادية أعجبت وأدهشت الكثير من البشر حتى وصل بها إصلاحها الاقتصادي إلى أن الكثير في هذا العالم يعتقد بأنه بحلول عام 2020م سيصبح اقتصادها ثالث اقتصاد في العالم بعد أن كان أضحكوكته. يقال: إن حوالي 60% من مجموع الناتج المحلي في الصين مصدره الكيانات الاقتصادية المدارة بنظام الاقتصاد الحر، وبدأ الصينيون المؤمنون بالشيوعية لا يعتبرون رأس المال كلمة قذرة أو مصاصا للدماء. والصين الآن في طريقها إذن إلى خلق ذلك النظام سمه نظام الاقتصاد الحر الذي يناسب بيئتها والذي يبدو أنه خدمها جيدا حتى الآن. والمثال الثالث هو ليبيا (ليبيا الفاتح من سبتمبر العظيم) الذي أصدرت وآمنت قيادتها بكتابها الأخضر ومبادئه الاقتصادية المختلفة (حسب قولهم) عن كل النظم الاقتصادية الأخرى، وحاولت إنجاح التجربة وبعد حوالي 35 عاما لم تستطع الجماهيرية من خلق نظام اقتصادي جديد يناسب بيئتها ودفع الشعب الليبي الضحية الثمن باهظاً، وعادت القيادة إلى نظام الاقتصاد الحر مع التعنت بأن كتابها الأخضر ومبادئه ما زالت قائمة، وتصح لكل مكان وزمان، واستمرت الأهازيج تصدح، بعد كل هذا الفشل الذريع (يا منبع الحرية ويا أول جماهيرية شعبية). والنظام الاقتصادي السعودي هو خليط من هذا وذاك؛ خليط من النظام الرأسمالي والاشتراكي والموجه وغيره. اختير بعد التجارب مع مرور الزمن حتى وصل إلى ما يسمى بالنظام الاقتصادي الحر الملائم للبيئة السعودية. وفي الحقيقة لم تهتم القيادة الرشيدة وشعبها بالتسميات بقدر ما همها قدرة هذا النظام المختار على رفع الكفاءة الاقتصادية من أجل رفع المستوى المعيشي للشعب السعودي. هو نظام خليط من هذا وذاك، فالدولة تملك مباشرة مصدر ووسائل إنتاج أهم مصدر رزق في المملكة وتستثمر هذا الرزق مباشرة عن طريق الميزانية العامة لإنشاء مصانع إنتاجية جديدة للسلع وكيانات لتقديم الخدمات، واستثمرت الدولة فيه وبنت تقريبا كل التجهيزات الاساسية الاجتماعية من مدارس وطرق ومستشفيات ومياه وكهرباء ومساكن.. الخ. وهذه القوة لم تعم نظر القطاع العام ليتسلط اقتصاديا على البشر في المملكة بل ترك لهم الحرية بضوابطها (لنتذكر تدخل الدولة المباشر في عام 87 و94 هجري حين أراد المؤمن بأنه مالي وأنا حر فيه بالإضرار بالمصلحة العامة)، لاستغلال طاقاتهم الخلاقة للاستفادة من استثمارات القطاع العام لإنشاء ما يسمى بالقطاع الخاص الذي وصل إلى درجة عالية من الكفاءة الاقتصادية والتي انتجت نسبة عالية من مشاركته في الناتج المحلي الاجمالي بعد أن كان مصدر هذا الاخير كلية تقريبا القطاع العام. إذن النظام الاقتصادي الحر في المملكة هو خليط من هذا وذاك إضافة إلى قاعدته الفكرية المتينة التي تؤمن بها قيادة المملكة وشعبها، فهو قدس إلى حد ما الملكية الخاصة، وترك لها الحرية بتوظيف قدراتها إلى أقصى الحدود، وفي نفس الوقت حذر من غلوها، وأصر على أن التساوي بالفرص والتكامل والتعاضد بين أفراد المجتمع ودولته لإعانة المحتاج ولأغراض أخرى هو حق يجب أن ينفذ بغض النظر عن كل أسبابه خاصة مسميات النظام الاقتصادي. كتبت أعلاه ليس من أجل الوجاهة العلمية أو الاجتماعية، لكن ما أجبرني، وأرجو من الله أن يجبر آخرين إن لاحظوا ما ألاحظه، هو كثرة ترداد عبارة أن النظام الاقتصادي في السعودية هو نظام حر، ونحن نعيش في ظل اقتصاد حر.. إلخ. من قبل رجال أعمال لا بل ومسؤولين في الدولة، تردد هذه العبارة حتى أصبحت في رأيي نشازا في ظل النتائج للنشاطات الاقتصادية في المملكة وخاصة في الفترة القصيرة الماضية. يستعمل رجل الاعمال هذه العبارة أحيانا وكثيراً في أغلب الأحيان لمآرب في نفس يعقوب إما جهلاً أو تجاهلاً. وحين تذكره أنه ليعمل الاقتصاد الحر بكفاءة يجب أن يقضي على الاحتكار وتركيز الوكالات التجارية بأيد محدودة، وتتساوى الفرص الاقتصادية بين راغبي الاستثمار، وأن له شروطا كثيرة أخرى غير متوفرة في ظل ما هو موجود في اقتصادنا تراه يهرب إلى أن المسألة مسألة عرض وطلب، فتسأله عن متى وكيف يستطيع منحنى العرض والطلب أن يوصلنا إلى شاطئ الأمان تجده مصرا على رأيه بأنه في النهاية سيفعل السوق فعلته السحرية لخيرنا جميعا بدون تدخل من الدولة، ناسيا أو متناسياً التكلفة الباهظة التي يجب دفعها للوصول إلى حالة التوازن هذه اذا بقينا احياء، وصدق حجة الاقتصاد في اوائل القرن العشرين اللورد كينز حين قال: إنه في المدى البعيد كلنا أموات كجواب ضد مقولة المدرسة الفكرية الاقتصادية الاخرى التي كانت تنادي وتصر على عدم منطقية وفائدة تدخل الدولة لتصحيح مسار الاقتصاد أثناء الركود الاقتصادي الرهيب. والمسؤول في الدولة الذي يحاول أن يغطي على فشله أو عدم قدرته على مجابهة التشوهات في الاقتصاد التي تعيق عملية آلية السوق بكفاءة لا بل تشلها تماما في أكثر الاحيان، يعلن ليقنعنا ويبرىء نفسه من كل قصور بأننا نطبق ما يتطلبه نظام الاقتصاد الحر في المملكة، وكان النظام المذكور لا يسمح له بالتدخل لتصحيح الغلط الحادث أمامنا والمعيق إن لم يكن المميت لعملية وكفاءة آليات الاقتصاد الحر، وهو بهذا القول مخطىء، فنظام الاقتصاد الحر يسمح بالتدخل المباشرة وغير المباشر لتصحيح الوضع من أجل إعطاء الحرية الحقة لعملية السوق لأن تعمل بكل كفاءة، ومرة ثانية نذكر لقد تدخلت حكومة المملك مرارا من أجل زيادة كفاءة اقتصادها الحر على العطاء: تدخلت من ناحية غلاء سعر سلعة عام 87 هجري، ومن ناحية زيادة عرض سلعة في عام 94 هجري، وكذلك تدخلت لإرشاد مستثمر لوضع مصنعه الذي يرغب في بنائه في مكان آخر غير الذي ابتغاه في عام 98 هجري، ولم يهمها آنذاك الا حماية المصلحة العامة حين وصل الغلو إلى حد لا يطاق اقتصاديا، وهذا بكل صراحة نبل العطاء في قرارات الدولة التي أنتجت هذه التنمية الانسانية الشاملة، وما قامت به حكومة المملكة ماهو إلا مثال يخصنا في السعودية، ومن أراد أن يعرف تجارب أمم أخرى فما عليه إلا قراءة التاريخ الاقتصادي لأم الرأسمالية ونظام الاقتصاد الحر الولايات المتحدة الامريكية ليرى كيف تدخلت وما زالت الحكومة الفيدرالية في العملية الاقتصادية حين حاول البعض من رجال الاعمال ونقابات العمال في إعاقة كفاءة اقتصادها الحر على العطاء لخير مجتمعها. لقد خدمنا هذا النظام الاقتصادي جيداً إلى حد ما حين كانت الدولة قادرة ماديا وعمليا على فعل كل شيء لخيرنا، حين كانت توظف مباشرة كل سعودي يبحث عن العمل وتدرس حتى جامعيا كل من يرغب أن يكمل دراسته إما داخل البلاد أو خارجها و... و.. إلخ، غير أن الظروف تغيرت واقتصاد السعودية في مرحلة مغايرة تماماً مقارنة بوضعه منذ حوالي 30 عاماً، إذن حان وقت إصلاح هذا النظام بصورة شاملة ومتكاملة، إذ إن الاستمرار بتطبيقه كما هو أو إصلاحه جزئياً سيقودنا إلى الكثير من المشاكل الاقتصادية التي إن استفحلت واستوطنت ستكون كبيرة يصعب حلها في المستقبل بدون دفع تكلفة باهظة. ولا أغالي إن قلت: إنها ستكون مصدر قلق وعدم استقرار لأمننا الاقتصادي والاجتماعي لا سمح الله. لقد بدأت تظهر بوضوح بشاعة ما يسمى بأفعال الاقتصاد الحر حين يترك دون ضوابط تردعه من الغلو، والتي حذر منها دائماً عباقرة الفكر الاقتصادي وغيره من العلوم الانسانية، فزيادة الفقر في المملكة وظاهرة تركيز الثروة وتكوين هذه الكيانات الاقتصادية الضخمة الحديثة فقط على حساب الكيانات المتوسطة والصغيرة ما هي إلا أمثلة لا تسر رؤيتها العين في مملكة التنمية الانسانية الشاملة، فتركيز الثروة يعطي الفرد او المجموعة محدودة العدد قوة خارقة مثلها مثل تلك التي يتمتع بها محتر السلعة لا بل أكثر.. لأنها تعطيه القوة لاحتكار وامتلاك حتى الفرص الاقتصادية التي يجب أن تكون متاحة للجميع بالتساوي، وتركيز الثروة يعطي الفرد أو المجموعة قوة أشبه كذلك بمحتكر المعرفة، وكلنا نؤمن بأن المعرفة قوة والذي يعلم أكثر من الآخر سيسيطر. وما لنا إلا أن نتذكر احتكار شركة آي بي إم العملاقة العالمية لمعرفة الكمبيوتر وتصنيعه أثناء الستينيات الميلادية تقريباً، ذلك الاحتكار الذي نتج من تركيز المعرفة وأعطاها القدرة على وأد الافكار المنافسة لها، أما بشراء حق الاختراع من المخترع والنوم عليه (اي عدم إنتاجه) أو إنتاجه لزيادة تركيز المعرفة بيدها فقط. واستمرت على ذلك إلى أن أصبحت تكلفة الاستمرار في تلك الاستراتيجية ذات الصبغة الاحتكارية باهظة جداً، وخلال ذلك الصراع دفع المجتمع الدولي الثمن غاليا نظراً لتأخر ظهور المنافسة القوية. إننا نرحب لا بل ندعو إلى قيام هذه الكيانات الاقتصادية الضخمة بشرط ألا يمنع قيامها إنشاء كيانات متوسطة وصغيرة الحجم لأن هذه الكيانات ذات الحجم المتوسط والصغير هي الموظف الأكبر للعمالة الوطنية، وهي في نفس الوقت مؤشر على عدالة توزيع الثروة الاقتصادية، وللمعلومية فكل تلك الاستثمارات الخيرة الكبيرة في ارامكو وسابك مثلا لم توظف مباشرة أكثر من مائة عامل سعودي. وأنه لمن الصعب إن لم يكن مستحيلاً اقتصادياً أن يستطيع أي بلد ما مهما أوتي من الغنى أن يستمر باستراتيجية استثمارية بهذا الحجم من أجل توظيف كل مائة ألف عامل جديد. إذن يجب الاسراع بخلق استراتيجية اقتصادية فعالة لتشجيع قيام الكيانات الصناعية ذات الحجم المتوسط والصغير بكثرة، وليس كافياً أن ينشأ صندوق استثماري بحوالي مائتي مليون ريال (مع كل احترامي لنشاط صندوق التنمية الصناعي السعودي). وليس كافياً كذلك أن تعلن مجالس الغرف التجارية والصناعية بين الحين والآخر أنها أنشأت كيانات إدارية لهذا الغرض محدودة التمويل. لقد خدمنا نظامنا الاقتصادي في الماضي، ودعنا نبتعد عن الاعتقاد بعدم المساس به تحت ذريعة انه خدمنا جيداً في يوم من الايام في ظل ظروف مختلفة مقارنة بالحاضر والمستقبل المنظور، لقد بدأت الدولة بعملية الاصلاح الاقتصادي هنا وهناك، ورأت أنه لابد من تغيير هيكل الاقتصاد السعودي جذرياً، إذ لا فائدة كبيرة ترجى إن لم يكن التغيير جذرياً وسريعاً، ودعني أعطي بعض الأمثلة لتكلفة التباطؤ بالاصلاحات الاقتصادية وحتى غير الاقتصادية. كان الاقتصاد الالماني مضرب المثل بالكفاءة قادراً على الزيادة الحقيقية في الناتج المحلي، تقريباً، سنة بعد أخرى، ونظراً لقوة النقابات العمالية خاصة وأسباب أخرى لم يجرؤ أي سياسي في الماضي أن يحذر من أن أجور العمال في ذلك البلد بدأت ترتفع بشكل مخيف لا يتناسب مع إنتاجيتها، وحين لم يعالج هذا الخلل الاقتصادي بدأت الكثيرة من المصانع اما تغلق في المانيا لتنتقل إلى اماكن أخرى أو بدأت تقلل من إنتاجها في المانيا لتنتجه في بلدان ذات تكلفة اقل خاصة من ناحية أجور العمالة، وبدأت نسبة البطالة في المانيا ترتفع ولم يعلن احد من الساسة المؤثرين لأنهم في حاجة إلى أصوات العمال مصارحة البلد في أن المشكلة تكمن في ارتفاع أجور العمال الألمان، واستمر الوضع، واستمر معه ارتفاع نسبة البطالة إلى أن وصلت إلى حوالي 11% من مجموع القوة العاملة، وبدأ الحزب الاشتراكي الديموقراطي (صديق العمال) وهو الحزب الحاكم الآن يعلنها بصراحة أنه حاول بكل الوسائل تقريبا الاصلاح الاقتصادي ولم تجد كثيرا لإيقاف ارتفاع نسبة البطالة وحان الوقت لمجابهة هذا الخلل الهيكلي في جسم الاقتصادي الالماني قبل أن يستفحل الخطر أكثر وأكثر. وها هو الاقتصاد الالماني، ثالث اقتصاد في العالم من ناحية مجموع الناتج المحلي الإجمالي، يدفع الثمن يومياً نظراً لتأخره في اتخاذ خطوات الاصلاح الاقتصادي جذرياً وبالسرعة المطلوبة. والمثال الثاني هو الاقتصاد الياباني، ثاني اقتصاد عالمي بالنسبة لمجموع الناتج المحلي الاجمالي الذي لم يجابه البطالة بل كان يضرب به المثل من ناحية الأمان الوظيفي ليس في القطاع العام بل والخاص منه، وتباطأ بأخذ الخطوات الضرورية للاصلاح الاقتصادي حين بدأت تظهر بعض التشوهات فيه وخاصة عدم كفاءة القطاع المالي، وركز بإصلاحاته على قطاعات التصدير إلى حد ما. وأثناء ذلك بدأت البطالة تزداد وحاول الترقيع ولم يتخذ الخطوات الجذرية بالسرعة القصوى إلى أن وصلت نسبة البطالة إلى حوالي 5% والتي تعتبر عالية بالنسبة لليابان مقارنة بالماضي، وها هي اليابان تعاني من عدم كفاءة هيكلها الاقتصادي بالرغم من أن الفائدة (تكلفة الاقراض) تتراوح حول الصفر من أكثر من سنتين، ذلك المستوى الذي كان يعتقد منظرو فلسفة عدم قبول التدخل في عملية السوق دواء يشفي كل الامراض الاقتصادية حتماً إذا صبرنا إلى النهاية. ونسي أو تناسى أولئك المنظرون أنه لابد من التدخل السريع والجذري احيانا لإصلاح الأمر وعدم ترك الاقتصاد الحر تحت رحمة عمل اليد السحرية في السوق حين يكون الهيكل الاقتصادي بالذات في البلد قد دب فيه عدم القدرة على العطاء بكفاءة عالية. وها هي اليابان تواجه البطالة والعالم يخاف حتى من انهيار قطاعها المالي. هذان مثالان على تكلفة التباطؤ في الاصلاح الاقتصادي على مستوى رفاهية مجتمعي ألمانيا واليابان، ولا أبوح سراً إن ذكرت أننا بدأنا ندفع الثمن كذلك ممثلاً بزيادة الفقر، والبطالة وتركيز الثروة من خلال ما يسمى بالاكتتاب أو تملك أسهم الشركات المساهمة خاصة. إنني وأمثالي نجد كل الاعذار المنطقية لا بل أن أكثرنا مقتنع بطريقة التؤدة التي تمارسها الدولة والمجتمع السعودي بالتدرج بالإصلاحات غير الاقتصادية. غير اننا لا نملك نفس القناعة، ولا حتى الاعذار المنطقية لضياع الفرص الاقتصادية نتيجة الحذر الزائد والتأني المفرط بحجم وسرعة تنفيذ الاصلاحات الاقتصادية. لقد كان القطاع العام أميناً في تنميته لكل المملكة العربية السعودية بالرغم من عدم الكفاءة الاقتصادية أحياناً، وأنه لمن المحزن حقا أن نحاول الاصلاح اقتصادياً بصورة غير متكاملة، وليس بالسرعة المطلوبة لنقلل من هيمنته في الاقتصاد ليهيمن عوضاً عنه قطاع خاص أثبت من خلال ما نرى عدم جدارته ولتبق المملكة العربية السعودية دائماً مرفوعة الرأس ومصدر رفاهية لأبنائها ..وعلامة شكر وعرفان للعلي القدير الذي وفق وأرشد قيادتها الكريمة وشعبها المعطاء لبسط هذه التنمية في جميع ربوعها.
(*)وكيل وزارة التخطيط سابقا:ً |