قبل كم يوم جلست في مجلس بحضور واحد من هؤلاء الذين يبيعون أوهام الشفاء على البسطاء. كان يعرف أني لا أصدق دعواهم، ويعرف أنه سبق لي أن كتبت أدين هذه الأساليب اللا إنسانية. كان يتسيّد المجلس ولكنه كان في غاية الحذر من تدخلي. يخشى أن أقول كلمة تفقده هيبته وحضوره؛ فهو وأمثاله يعيشون على قناعة الناس بقدراتهم. لا يريد لهذه القناعة أن تهتز؛ فصنعتهم حساسة؛ أي درجة من الوعي قد تطيح بها. بعد أن انفض المجلس وفي الوقت الذي يتحرك فيه مغادرا المكان ألقى عليّ نظرة فسّرتها بأنها نظرة امتنان وشكر؛ لأنني لم أتصادم معه أو أحاول أن أهز قناعة الموجودين بقدراته. كانت كل العلاقات في ذلك المجلس المسائي معلقة بين صمتي وحذره. كان يتكلم ويلقي محاضرات ويوزع النصائح وهو يعرف أني موجود. كنت ألاحظ القلق على محياه وحركات يديه. تأكد لي شيء واحد في ذلك المجلس أن الرجل كان في غاية الذكاء. لا يمكن أن يتخذ تلك الصنعة إلا إنسان ذكي. والأهم من الذكاء القدرة الرهيبة على الملاحظة. لا يكف الرجل عن قراءة كل ما يجري في المجلس. هكذا أحسست. دخل صبي صغير ولم يمكث في المجلس سوى ثوان خرج بعدها. مجرد صبي صغير لا يمكن أن يلفت نظر أحد. دار الحديث وتشعب فتبين لي أن الرجل تفحص الصبي بشكل تفصيلي مريع وبنظرة واحدة. لا شك أنه يستخدم هذه النظرة مع الناس كلهم وخاصة مرضاه. ما كنت لألاحظ هذه الملاحظة لولا أنه سبق لي أن قرأت كتاباً عن الجاسوسية. يتحدث الكتاب عن أهم خاصية يجب أن يتمتع بها الجاسوس. في أحد فصول الكتاب يتحدث عن حياته قبل التحاقه بالجاسوسية وبعدها، كيف تغيرت شخصيته ونظرته للعالم من حوله؟ يروي قائلاً: بعد ستة أشهر من التحاقي بمعهد التدريب خرجت في إجازة وذهبت إلى المقهى الذي اعتدت أن أجلس فيه. فوجئت بأن كل الناس الذين كنت أعتقد أني أعرفهم في المقهى لم أكن أعرفهم حقا. لقد تغيروا بشكل كامل. بدأت ألاحظ أن المقهى لم يكن بريئا كما كان قبل ستة أشهر. عندما طبقت الدروس التي تعلمتها في المعهد تكشف لي أن العالم مختلف. لاحظت أن الناس الذين كنت أراهم كل يوم ليسوا كما كنت أظن؛ فهذا يبيع مخدرات، وهذا شاذ، وهذا يخفي شيئاً، وهذا قلق، وهكذا كلّ إنسان يعيش حياتين؛ فالحياة التي نراها بعيوننا العادية ليست هي الحياة الوحيدة التي يعيشها الناس. هناك حياة أخرى تقع تحتها؛ فالرجل الطيب البريء يمكن أن ينتهي مخدوعاً. أظن أن هؤلاء الذين يعملون في حقل الطب الشعبي وخاصة الذين يبيعون أوهام الشفاء لديهم القدرة على رؤية الحياتين: الحياة العادية التي يراها الناس كلهم والحياة الأخرى التي لا يراها سوى شديدي الملاحظة والأذكياء والمدربين على ذلك؛ فالمعالج الشعبي لا يمكن أن يكون إلا هكذا. عندما يدخل عليه المريض يقرأ خلفيته، يقرأ حياته الأخرى التي يخفيها. فأي سؤال يطرحه على المريض ليس هدفه البحث عن أعراض المرض، وإنما يهدف إلى كشف الجانب الآخر من حياة المريض، هدفه الوصول إلى الجهة المظلمة من عالمه. عندما يقتحم ما يخفي من حياة المريض يمتلك أسراره فيمتلكه ويسيطر عليه؛ فالمريض يكون عادة في حالة من الضعف والإذعان من السهل أن يبوح بأسراره دون أن يحس بذلك، وخاصة إذا أحيط بأجواء سحرية. وأقصد بأجواء سحرية تلك الأجواء التي يخلقها المعالجون الشعبيون من صرخات وقراءات وتمتمات وبخور وأدخنة وإشاعات. تتفكك روح المريض وتتفلت من عراها؛ فيختل منطقه ثم يفقد القدرة على التمييز بين ما يجب أن يخفيه وما يجب أن يبوح به. وهكذا يتحول إلى فريسة من السهل التهامها. هناك قصص كثيرة تؤكد هذا وخصوصا في أوساط النساء؛ فالمرأة الشرقية تتوقف حياتها على أسرارها. عندما تقع في قبضة واحد من هؤلاء تنتهي حياتها أو تصبح رهينة لأهدافه وتطلعاته. ربما تشفى من مرضها ولكنها لن تشفى من هذا الرجل أبداً.
فاكس 4702164 |