Monday 7th March,200511848العددالأثنين 26 ,محرم 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

عن أية خصوصية نتحدث؟عن أية خصوصية نتحدث؟
د. عبدالرحمن الحبيب

تعبر الخصوصية لأي مجتمع، عن خصائص معينة تتشكل من عادات وتقاليد وقيم موروثة تراكمت تاريخياً وتفاعلت داخل المجتمع وأفراده وأيضا تفاعلت مع خارج المجتمع ودوله من خلال بيئة محيطة مكاناً وزمانا.
والخصوصية تعبر عن الهوية التي بدورها تتصف بخواص دينية وثقافية وسياسية ولغوية وعرقية ونفسية.. الخ، ومن ذلك كله ينتج المجتمع أفكاره ومعتقداته وفنونه وإبداعاته، ذلك يعني وجود خصوصية لكل مجتمع، فكل حضارة لها خصوصية، وكذلك كل منطقة، بل وكل جماعة اجتماعية وكل طائفة وكل قرية..الخ.. ويبدو هذا الطرح عاماً فضفاضا، إذا لم نحدد المجتمع المقصود، فكثيراً ما يستخدم البعض هذا المصطلح في مجتمعنا كمسوغ لرفض التطوير الطبيعي والتغيير التدريجي أو حتى التغيير الضروري لحماية المجتمع ومصالحه.
وهنا ينبثق سؤال أساسي هو عن أية خصوصية أو هوية نعني؟ العادات والتقاليد سلبيها وإيجابيها؟ البالي منها والحيوي؟ تراثنا المتنوع المليء بالأمجاد والخيبات؟ الموروث المنفتح على الثقافات أم المورث المنغلق على ذاته؟ المشاعر القبلية المحترمة أم العنصرية؟ ماذا ننتقي من هذه الخصوصية؟ وعن أية خصوصية نتحدث؟ في تقديري أن المبالغة في تضخيم دور الخصوصية، وكأننا المجتمع الوحيد الذي يملك خصوصية، وكذلك الاستمرار في استخدام هذا المصطلح بعموميته يفضي إلى مزيد من التشويش النظري المتعالي على تناول الأحداث بتفاصيلها الواقعية، ومزيد من الفصل بين النظري والواقعي.
فالتعميم هنا يجانب المنهج العلمي كما يوضحه لنا الباحثون، لأنه لا يمكن اختزال هوية حضارة معينة ببضع سمات ثابتة، رغم إمكانية توصيف هذه الخصوصية بأدوات ميدانية بحثية لغرض إجرائي بحت.
كما أن المبالغة في الركون إلى هذا المصطلح بعمومية، والتشدد فيه، يسوغ لدعاته المحافظة على أنماط متأزمة من الوضع الراهن أو التراجع للخلف للمحافظة على تلك الخصوصية الوهمية، ومن ثم دعم أحد عوامل التخلف في مجتمعاتنا خاصة على المستوى الاجتماعي، والتقوقع على الذات وعدم الانفتاح على الآخرين.. وربما تقييد الحقوق المعترف بها رسمياً.. خاصة ما يتعلق بالمرأة وحقوقها باسم هذه الخصوصية، والتي باسمها أيضا، وفي بعض مجتمعاتنا مثلاً، يحرم المجتمع على المرأة بناء مؤسسات مدنية جديدة تلبي حاجات اجتماعية جديدة بحجة خصوصية المجتمع، خاصة فيما يتصل بحقوق المرأة أو ما تتطلبه الظروف الراهنة من انفتاح على الشعوب الأخرى وثقافتها، وبذلك يتكرس الجمود وتعاق النهضة باسم المحافظة على التراث والهوية (الخصوصية).
إن أغلب الأطروحات الفكرية داخل المجتمعات العربية تنطلق من رؤية لا تاريخية لتبدُّل المراحل، ومن تفسيرات مغلقة لنصوص نظرية تسمو على الواقع، والمهمة الأصعب، هنا، والأكثر تعقيداً هي تمدين السلوكيات والقناعات القديمة عبر خطط مدروسة تراعي خصوصيتها وأعرافها وتحترم عاداتها وتقدم بدائل حقيقية.
إذ، للأسف في بعض المجتمعات العربية، حين تخطى الزمنُ القبيلةَ كتنظيم اجتماعي غير متناغم مع التحديث، عملت أنظمة عربية عصرية على إقصاء القبيلة بالكامل، واصطنعت بدلاً منها تنظيمات حديثة من ورق، كالجمعيات والاتحادات والنقابات، وفقاً لنظريات بلا تطبيق وأفكار متعالية على الواقع.
لم تهيئ المناخ للتغيير،لم تكترث برسوخ النمط القديم، لم تعتن بالنسق الناشئ، فتحولت تنظيمات حديثة إلى مسوخات محزنة أو بيروقراطية رثَّة، وصار البديل المستحدث مسخا مشوها أسوأ من سابقه، مما أدى إلى ارتفاع صوت المطالبين بالرجوع إلى الخلف باعتبار أن النظم الاجتماعية الحديثة أثبتت فشلها.. وأفضى بكثير من الحركات الفكرية النهضوية والتحديثة والإبداعية إلى الخفوت أو التشتت.
وعلى عكس المرتجى، حصل ترييف للمدن مما أدى إلى تهميش أو تراجع الدور المدني التحديثي والتنويري والإبداعي والتنوع الثقافي.. الخ، وأدى إلى تدهور البنى الفوقية والنخب المثقفة، كما يلاحظ من التراجع الكبير على المستوى الثقافي لحركة الإبداع والأدب.
ويعمل تفاقم الهجرة العشوائية إلى المدن على زيادة الحراك الاجتماعي اضطرابا، نتيجة اغتراب المهاجرين وعدم اندماجهم بمجتمع المدينة.
والبحث اليائس عن هوية مفقودة (خصوصية) في زحام المدن، فينزع البعض إلى الجمود والتقوقع حفاظا على الهوية القديمة والمبالغة والافراط في استخدام الخصوصية بمناسبة وبدون مناسبة.. هناك العديد من القيم (خصوصيات!!) التي ورثناها يحتاج كثير منها للنقد، الإيجابي منها والسلبي على حد سواء..
الفزعة مثلاً من القيم الإيجابية النبيلة ولكن عندما تتحول إلى واسطة في العمل تغدو آفة مضرة، لذا ينبغي مراجعة بعض هذه القيم ودراستها.. سنكتشف أن كثيراً منها قد انتهت صلاحيته، ونحتاج إلى قيم أخرى.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved