انتحى أبو منصور بأبي مرزوق على جنب (على فكرة قبل أن تترسخ الكنيتان) وأخبره بنتف من الحقيقة المتوفرة في بانكوك، لم يكن أبو مرزوق يشك أبداً في خبرة وقدرة (أبو منصور) وصدق دعاواه، ولكن ما سمعه كان مذهلاً، أربكه وحطم قدرته على التخيل، لم يكن جاهلاً ولم يكن متقوقعاً، بدأ سفراته منذ نعومة أظافره، كان عمره خمس عشرة سنة عندما عبر الدهناء ثم شق عباب البحر ليصل إلى جزيرة اللؤلؤ، ولكن ما يقوله أبو منصور أقرب إلى الأساطير، لا يعني أن هناك شكاً أو حتى مجرد تساؤل حول الأشياء المذهلة التي سردها عليه رفيق دربه، كان رائده في أول سفرة له إلى عبدان عبر به الكويت والبصرة وديار الكواوله، أبو مرزوق أكبر من أبو منصور بسنة أو سنتين ولكن القيادة لا تعترف بالسن، تعلم منذ ذلك الحين أن يسمع وينفذ دون أن يسأل، فأبو منصور يبقى رائداً لجيله والأجيال التي تلت جيله، لم يكثر من الأسئلة أو الاستفسارات فطبيعة ما أسره له به أبو منصور لا يمنحه أي قدرة على بناء الأسئلة، سمع وصفاً سريعاً لعالم لم يطله في يوم من الأيام خياله، دون تردد باع أبو مرزوق سيارته الفورد ولم يكن لديه مانع أن يبيع ثيابه لولا أن أبو منصور طمأنه أن مبلغ السيارة كاف. قال لأمه ولزوجته إنه سوف يسافر إلى بانكوك بكل شفافية، كان اسم بانكوك بريئاً ومحايداً لا يشي بأي دلالات تتعلق بالقلب فضلاً عن معيار الكتلة والحركة، في الواقع لم يكن معروفاً أصلاً فلم تسأله أمه أي سؤال يتعلق ببانكوك، سألته عن السفر ظانة أن المسألة ثلاثة أو أربعة أيام ثم يعود كما عودهم في سفراته السابقة، أما زوجته فلم تبادر بأي سؤال، تثق به بكل رومانسية السطوح الصيفية المفعمة بالنجوم، كان قد تزوج وتعايش مع زوجته حسب المعايير التي ضختها أم كلثوم في رأسه، سيعود ببعض الأجهزة الكهربائية لبيعها، الإنسان لازم يترزق الله، هكذا أفهمها، لن يغيب أكثر من أسبوع ولكي لا نظلم أبو مرزوق يجب أن نشير إلى أنه لا يعود من البحرين إلا ومعه مصاغ ولا يعود من عبدان إلا ومعه زولية كاشان صغيرة، ببيعها يسترد حوالي عشرة في المائة من مصاريف الرحلة تجارة واضحة المكاسب، لم يدخل البيت خالي اليدين، ولكن من شاهد استعداداته والمصاريف التي أمنها لبانكوك سيعرف أن النوايا مختلفة، لم يفقه أبو منصور بأي شيء عن بانكوك فاضطر أن يختلق حكاية الأجهزة الكهربائية، فأبو منصور عاد من بانكوك بأسرع وقت ممن حتى يتسنى له العودة إليها مجدداً محملاً بالزاد والمتاع الكافي، فمعرفة بانكوك طويلة ومعقدة وتتطلب وقتاً ممتداً لا يعلم مداه إلا الله، هكذا فهم أبو مرزوق أيضاً عليه أن ينسى ما تعلمه من رحلات البحرين وعبدان، هناك أفق جديد سوف يفتح في سماء شباب العسيلة، كأنما هناك بعد خامس على وشك أن يكتشفه الدماغ الإنساني السجين في الأبعاد الأربعة، كان لابد من التسلح والاستعداد للطوارئ، التفت في عالمه عن أقرب سلاح فلم يجد سوى مسجلا صغيرا وأشرطة مليئة بأغاني فريد الأطرش وأم كلثوم اختطفها ووضعها في شنطة السفر ظانا أن المسألة فيها نوم في السطوح، وهو لا يستطيع أن ينام إذا لم يضع الراديو تحت مخدته. لم يكن السؤال عن الطبيعة يهمه ولكنه سأل فقال له أبو منصور إن بانكوك كلها خضراء بحث عن الخضار في رأسه فلم يصل خياله إلى أبعد من الخرج، فهي أقرب مدينة خضراء لمسها عن قرب، فتصور خضار بانكوك مثل خضار المشتل في الخرج، الإنسان عندما يسمع عن شيء لا يعرفه يحتاج إلى نقطة يبدأ منها بالتخيل، فالخيال لا ينشط في الفراغ، فراح يردد مع سلامة العبدالله (وأنا تل قلبي تل هوى البال في المشتل) بادئا الرحلة الطويلة والشاقة التي أوصلته في شيخوخته إلى استراحة شويمطة وبطش الأحلام المزدحمة بأليسا.
|