Monday 7th March,200511848العددالأثنين 26 ,محرم 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "محليــات"

دفق قلمدفق قلم
الحق والباطل
عبدالرحمن صالح العشماوي

أورد المبرِّد في كتابه (الكامل في اللغة والأدب) خبراً جاء فيه: وصل إلى علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ قوماً يفضِّلونه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فوثبَ عمر مُغْضَباً حتى صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلَّى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس، إني سأخبركم عني وعن أبي بكر: انه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أرتدَّت العرب، ومَنَعتْ شاتَها وبعيرها، فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أنْ قُلنا: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة، يمدُّه الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب، فقال أبوبكر: أو كلُّكم رأيه على هذا؟ فقلنا: نعم، فقال أبوبكر: والله لأنْ أَخِرَّ من السماء فتخطفني الطير أحبّ إليَّ من أن يكون هذا رأيي، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وكبَّره، وصلّى على نبيّه عليه الصلاة والسلام، ثم أقبل على الناس فقال: أيُّها الناس مَنْ كان يعبد محمداً فإنَّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حي لا يموت. أيها الناس، إنْ كثر أعداؤكم وقلَّ عددكم، ركب الشيطان منكم هذا المركب؟
والله ليُظهرنّ الله هذا الدين على الأديان كلّها ولو كره المشركون، قوله سبحانه الحق، ووعده الصدق: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }.
والله - أيها الناس - لو أُفْردتُ من جميعكم لجاهدتهم في الله حقَّ جهاده حتى أُبْلِيَ بنفسي عُذْراً، أو أُقتل قَتْلا، والله - أيها الناس - لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم الله عز وجل، وهو خير معين.
قال عمر رضي الله عنه: ثم نزل أبوبكر بعد كلامه هذا فجاهد في الله حقَّ جهاده، حتى أذعنت العرب بالحق.
هذا خبرٌ مفعمٌ بالمواقف المشرقة، والكلمات المضيئة، والأخلاق الفاضلة، والإيمان الراسخ الذي لا تُزَعْزعُه الفتن، ولا تُضَعْضِعه الأهواء والأحداث.
يبدأ الخبر موقف عمر، ويا له من موقفٍ جليل الأثر، فقد سمع أنَّ قوماً فضَّلوه على أبي بكر، فغضب لأنه يعلم علم اليقين أن أبا بكر أفضل منه، ولأنَّ عمر قد تربَّى في مدرسة محمد بن عبدالله التي لا تعرف التدليس ولا التلبيس ولا ترضى بالادِّعاء الكاذب، غضب عمر فصعد المنبر ليكون حديثه عاماً حاسماً؛ واضحاً، لانَّ الحقَ واضح في نفسه وعقله، وما دام الحق واضحاً فلابد أن يعلنه على رؤوس الأشهاد ليبلغ أبعد ما يمكن أن يتناقله الناس.
لقد حدَّث الناس بخبرٍ واضح يعرفونه تماماً ويعرفون فضل أبي بكر فيه على جميع الصحابة رضي الله عنهم، إنه خبر قتال المرتدِّين، فما عاد بإمكان أحدٍ بعد هذا الحديث العُمري الصريح أن يفضل عمر على أبي بكر، وهنا ترتفع مكانة عمر عند الله أولاً، ثم عند الناس، لأنه صاحب حق، ولا يرضى إلا بالحق، ولا يتردَّد عن قول الحق حتى ولو كان على نفسه وقد فعل رضي الله عنه.
أما الخبر الذي أورده عمر عن موقف صاحبه أبي بكر فهو خبر عظيم فيه من الهمة والعزيمة، والإيمان واليقين، ووضوح الرؤية والهدف، وجلاء صورة الحق الذي لا يلتبس به باطل، والصدق الذي لا يخالطه كذب، واليقين الذي لا يمازجه شك، ما يجعله خبراً عظيماً جديراً بالدراسة والتأمُّل لاستخراج ما فيه من الفوائد التي تُبنى بها نفوس الأجيال.
الحقُّ في هذا الخبر واضحٌ لا يستطيع أن يقف الباطل أمامه، وهو واضحٌ جداً في ذهن أبي بكر رضي الله عنه حتى أصبح لا يقبل أنْ يطعن فيه طاعن (محمد صلى الله عليه وسلم قد مات، والله سبحانه وتعالى حي لا يموت).
حقيقة أجلى من وجه الشمس الصافي تراها عيون المؤمنين الصادقين، وتعشى عنها عيون الخائفين الوجلين من البشر، ولهذا كان استحضار الشاهد القرآني في ذهن أبي بكر سريعاً {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، وها هو ذا - رضي الله عنه - يدمغ بالحق تلك الظنون التي أوهنت موقف الناس، فإذا بها تتهاوى، وإذا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستجيبون لأبي بكر ويذعنون، ويرون بعد كلامه الحقَّ واضحاً جليّاً.
الحقُّ لا يخفى إلا على العيون التي أعماها الباطل فما عادت تستطيع أن تفرِّق بين حقٍّ وباطل، وهذا ما نراه يكاد يعصف بقلوب وعقول كثيرٍ من المسلمين في هذا الوقت العصيب الذي يمرُّ به العالم اليوم.
إنها مسؤولية العلماء والدعاة وولاة الأمر المخلصين، أنْ يزيحوا عن عقول الناس حُجب الأوهام والظنون، بنور الحق المبين.
إشارة
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved