Wednesday 9th March,200511850العددالاربعاء 28 ,محرم 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

من يملك الغد..؟!من يملك الغد..؟!
إبراهيم التركي

(1)
** (الأمسُ) حكايةٌ تتجدد وتتمدد..
نحيا تفاصيله، فنجترُّ ما يواسي حيناً، وما ينقضُ المواجع أحياناً..!
** وفي الحوارات والكتابات التي يُديرها المثقفون في الجلسات والمنتديات تكثيفٌ قرائيٌ لأبعاد (الماضي) بوصفِه إرثاً يُحرِّك المشاعر، ويضيءُ المشاعل، ويقودُ الذات إلى توجهٍ يتوهج في الداخل فيتوهم صاحبُه أنه يمكن له أن يعالج أدواء الخارج..!
** نحن مهمومون باليوم فنفرُّ إلى الأمس، متجاهلين الغد، ويُؤمن بعضُنا بمقولة غربية معروفة (فمن يحيا في الماضي يفتقد الحاضر When you live in the past,it costs you the present) وبذا تطيب حكاية الأمس لمن تجاوز في عمره حداً فرأى باقيه أضأل من ماضيه، وأدرك أن المساحة المنتهية من أيامه أعرض من المسافات القصيرة أمامه.. فطابت له ولرفاقه زوايا الذكريات..!
(2)
** الفردُ إشارةٌ إلى أمةٍ لا تجدُ أمامها غداً أو وعداً فتلجأُ إلى الذاكرة مكتفيةً بالوقوف على (الطلل) والبكاءِ على (الدِّمن)، ولو حملت الاستعادةُ مشروعاً نهضوياً يستمدُ ملامح الأولاد من ملاحم الأجداد لكان في ذلك خيرٌ، أما أن نتحول إلى مجموعةِ قُراّء للسير والعِبر فالحاضر شاهد على أننا وقفنا في محطة التاريخ التي تهزأُ بمن يُحيلها إلى معبد وموعد..!
** الجميع يُجِلُّون حضاراتهم لكنهم لا يتكلون عليها، ونحن لا نرى في الأفق بشائر تغيير فنكتفي بالتنظير والتبرير والتحذير.. وهنا موقف آخر..!
(3)
** روى الناقد الراحل مارون عبود في كتابه (مُجددون ومجترون) حكايةً طريفة عن شاعر (كسرواني) يحفظ الكثير من شوارد اللغة وأوابدها - كما قال - وكان هذا الشاعر يحمل كل يوم قصيدة غزلية ينشدها للشيخ رشيد الخازن وكان الشيخ يسمعها منه، وكان كلما انتهى من تلاوة قال للشيخ: كيف رأيت؟ فيجيبه الشيخ ببساطة عرفت عنه: (عال. سلّم بوزك)..!
** وأطال الشاعر زيارته حتى صار يُصبّح الشيخ بقصيدة ويُمسِّيه بأخرى، ثم يسأله كيف..؟
وأخيراً قال له الشيخ بلهجته المشهورة: كل شعرك حكي ما منّو نتيجة، هل تعرف كيف تغزلت أنا مرة.. قلت لواحدة مثل تلك التي أخذت عقلك:
- عيونك سود وخدك وردي، في شيء وإلا منمشي؟!!
** ضرب الشيخ مثالاً لما يصنعه (الفعل) وما يبدده (القول)، وقرأنا في موقفه صورة الأمة التي أهدرت وقتها بكلام وخطب فأجادت البلاغة ولم تستطع البلوغ..!
(4)
** بين أمسٍ يحكي ويوم يبكي تاهت الأمةُ، ولم تستطع أجيالُها الصاعدة أن تجد خطوطاً تربط بها معادلة الغياب الحاضر (المتمثل في التاريخ) والحضور الغائب (المتمثل في المستقبل)، فانكفأت داخل حصارٍ (ذهني) يغتالُ الأمل..!
** يبدأ الحصار من إغلاق منافذ التفكير الحر المستقل القادر على محاكمة الواقع واستقراء التجارب وتحديد إمكانات التغيير، ويمتد هذا الحصار في إملاءِ أسلوب التعامل والتفاعل بمسطرة ثابتةٍ لم يضع معادلتها المهندسون والرياضيون..!
** طريقٌ واحدةٌ ترسمُ خطواتِ اليدين والقدمين وتُغمضُ مسار الذهن والعينين ليصبح الجيل داخل يم لُجيّ تحركه الأمواج وتدفعُ به إلى حيثُ يمكن أن يفرق أو يغرق، وحيث يضِل أو يختلّ، ونظنّ أننا نحميه ونحن - في الحقيقة - نمحوه..!
(5)
** أشارت دراسات علمية قامت بها منظمة اليونيسيف مؤخراً إلى تضاؤل التفكير الإبداعي لدى طلاب بعض الدول العربية عند وصولهم إلى المرحلة الثانوية..!
** احتوت الدراسة على أسئلة وأرقام، ولم تتجاوز الحقّ فإشاراتُها لغةٌ تتحولُ إلى مشاهد حين يُقمع الطفل فلا يَسأل، والفتى فلا يحلل، والشاب فلا يجادل، وتصاغ له الكلمات، وتُقولبُ له الحركات، ويطلب منه أن يكون نسخةً فيتحول إلى مسخٍ..!
** يريد الجيل أن يتمثل نماذجه المشرقة دون أن يذوب فيهم، ويود أن يحمل شخصيته المميزة وهُويته الحضارية دون أن يُستلب من غريب أو يُرتهن لقريب، ويدرك أنه لم يعد قادراً على فهم حقيقتهِ وينام على همٍّ وغم، ويستعيد مع (بشارة الخوري):
ويُمطر الضيم في أرضي وأشربه
وكنتُ لا أرتضي أن أشرب السحبا
** يشغل (التعليب) و(الحصار) هاجس كثيرين يريدون أن ينطلق الجيل الجديد من إساره إلى مداره بعيداً عن (الوصاية) التي تمارسُها التيارات الفكرية المتصارعة، طوراً من خلال التعليم، وطوراً عبر وسائل الإعلام، بمنطق الرعاية والحماية والتقاليد حيناً والانفتاح والليبراليّة والتنوير حيناً آخر..
(6)
** الغد حكايةٌ تائهة لا تستوعبُها أحلام الشباب وقلق الكهول وواقعية الشيوخ.. أي أننا نعاني من مستقبل معطل ندور حوله في فراغات حوارية دون أن نثق أن بإمكاننا أن نحس به ونتلمسه وندنو من أسواره وأسراره..!
** (ماضويُّون) لدرجة الخرف والسرف.. إذ نهذي به دون أن نهتدي إلى انعكاساته الآنية والآتية، وبتنا كامرأة دخلت سن اليأس فباتت تهجس بأيام المخاض فلا هي ستنجب الولد ولا نحن سنجلب الغد..!
** وتبقى مشكلة الإصلاحيين (من التيارات المختلفة) انقطاعهم عن أحاسيس وسلوكات الشباب الذي لم يعد يجدي في تغييرهم (نوح البكاة) أو (ترنم الشداة).. ولعل (أبا العلاء) قد اختصر الطريق على سعاة الاحتواء ليظلّ أحفادُه بحاجة إلى أن يعرفوا شيئاً عن غدهم وليس ألف شيء عن أمسهم..!
** لا نكتفي بإحاطتهم به بل نكرره عليهم في المقررات والمحاضرات والبرامج والندوات، ولا يسمعون في مقابل ذلك ما أعددناه (لا ما نقوله) من أجل غدهم..!
(7)
** الجيل قلق على غده فأين سيقف..؟
وإلى أين سيمضي..؟
وكيف يُدير مستقبله أو كيف سيدورُ به..؟
وهو إذ يتطلع إلينا لنرسم له ملامح الآتي، فإننا مسكونون بأحاديث الذكريات التي نستعيد بها شباباً مات ومجداً فات..!
** علمونا حين كنا صغاراً أن الحي أبقى من الميت، وعرفنا ونحن كبار أن الأمة منذ قرون وهي تفتش عن غدٍ لا يجيء، وكنا ننشد في المدرسة: (نحن الشباب لنا الغدُ ومجده المخلّد)، وبات أبناؤنا يستفهمون: أي غد..؟
وأي مجد..؟!
* المستقبل حياة..!

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved