دراسة تحليلية لمحمود مخلوف
عن قصة نساء في مهب الريح
لمؤلفها الاستاذ عبدالرحمن ابو حيمد
نساء في مهب الرياح - أي رواية ناجحة - تشتمل على عدة قصص متداخلة: قصة أم آدم، وقصة ابنها آدم، وقصة ابنها الثاني شعيب، وقصة حصة وقصة أم سالم الزوجة الثالثة لشعيب، وقد استطاع الكاتب أن يربط بين هذه القصص بإحكام لتكون روايته الرائعة. وأول قصة تطالعنا في الرواية قصة أم آدم وزوجها الفلاح البسيط الذي عاجلته المنية ليترك أم آدم وحيدة مع ولديها آدم وشعيب، تصارع الظروف القاسية لإنتاج عيشها وتربية ولديها، وبعد سنوات قليلة تمرض بالزائدة، وسرعان ما تلفظ أنفاسها الأخيرة في مستشفى بالمدينة، بسبب جهل (المداوي) في القرية وجهل الطبيب وإهماله في المدينة. وما إن تنتهي قصة أم آدم حتى تتفرع عنها قصة ابنها آدم، وقصة أخيه شعيب، وتدور أحداث القصتين حول تخرجهما في المدرسة العسكرية، ثم حصولهما برتبة عسكرية جيدة على الوظيفة في ظروف تسمح لهما بالمتاجرة في العقارات بعد الدوام الرسمي، فيحقق كل منهما ثروة طائلة، وبخاصة آدم الذي أنفق منها الكثير في مجالات البر والخير، واستعان بثروته وجاهه على توفير الخدمات الضرورية لقريته. وأما شعيب فكان مختلفاً عن أخيه في المزاج والتكوين، فلم يكن يبالي أن يرتكب المخالفات السلوكية في المدرسة العسكرية أثناء دراسته، ولم يشاهده أحد في مسجد الحي، لقد حقق نمواً مادياً ولكنه لم يحقق نمواً معنوياً وروحياً، ولعل هذا ما يفسر فشل زواجه المتكرر، لينقلنا الكاتب بعد ذلك إلى نموذج آخر للمرأة القادرة على التعايش مع هذا الصنف من الرجال، ممثلاً في زوجته الثالثة (أم سالم) التي تجد ذاتها وتحيا حياتها الحقيقية بعيداً عن أبنائها الذين أوكلت أمرهم إلى الخادمات لتغشى الأسواق وتشارك في المناسبات. وكل ذلك يحدث وشعيب في غفلة عنه، ولا سيما بعد تعرفه إلى مسؤول وحدته، واستغلاله سلطة ذلك المسؤول ومكانته في كسب المال بالغش والتلاعب وتزوير الأوراق والمستندات، إلى أن يلاقي نهايته المتوقعة في السجن، ليقضي وراء القضبان خمس عشرة سنة، مع إعادة الاموال التي جمعها إلى الخزينة. وأما زوجته (أم سالم) فقد تزوجت برجل آخر بعد أن حصلت على طلاقها من شعيب، ولم تدم علاقتها بزوجها الثاني إلا ريث ما سحب منها جميع الأموال التي استولت عليها من شعيب، ثم طردها شر طردة، فلم يبق إلا التجاؤها إلى أبنائها من شعيب، ولكن ابنها الأكبر سالم أنكرها حين حاولت أن تحتضنه قائلة: أنا أمك، وأغلق الباب في وجهها وهو يقول: والدتي في الفلبين، لتصاب أم سالم بالذهول ثم الانهيار بعد أن تقطعت بها الأسباب. والملاحظ أن القرية والمدينة تشكلان عنصر المكان الذي تتردد فيه الشخصيات وتتطور فيه الاحداث في إشارة من الكاتب إلى اتساع عنصر المكان ليشمل الوطن السعودي بمدنه وقراه، ومن خلال تطور الأحداث وتعقدها وتفاعل الشخوص ونموها يقدم الكاتب المضامين والرؤى التي تتقاطع مع تطلعات أجيال الرواية الثلاثة، ويصف الحراك الاجتماعي المتصاعد في تلك الفترة من تاريخ الإنسان السعودي، وقد أجاد الكاتب استخدام أسلوب السرد وإدارة الحوار بين الشخوص واستغلال عنصر الصراع بأشكاله سواء منه الصراع بين الشخصيات والصراع الداخلي (المونولوج) وصراع الأفكار ليقدم لنا روايته الرائعة. فباستخدام عنصر الحوار يصور لنا الكاتب نظرة الناس إلى مكانة المرأة الاجتماعية، وأثر التعليم في تصويب هذه النظرة، كما نلاحظه في هذا الحوار الدائر بين أم آدم وزوجها (الأستاذ سليمان الأمساني):... ثم أردفت النساء عادة يفطرن بعد الرجال أفطرك ثم أفطر، قال: لا، أنا وأنت نأكل ونشرب معاً.. ما يفعله هؤلاء مع زوجاتهم أمور لم ينزل الله بها من سلطان، ولا أساس لها من دين أو عقل، بل هي إرث بغيض وعادات وتقاليد سيئة، لا تعطي النساء حقهن، لن آكل ولن أشرب إلا معك وسنكون قدوة للآخرين. وفي المشاهد المأساوية لمعاناة أم آدم مع المرض الذي انتهى بموتها أكثر من رمز ودلالة، فهي ضحية الجهل وشيوع التداوي بالأعشاب التي تساعد على استفحال الداء في كثير من الأحيان، وهي ضحية البنى التحتية التي كانت القرية في منأى عنها (مائة وخمسون كيلة تستغرق يوما وليلة) وهي ضحية جهل الطبيب الذي أخفق في تشخيص المرض برغم خضوعها للفحص الكامل، وضحية إهماله بإذعانه أن حالتها لا تستدعي المبيت في المستشفى. والمتأمل في ردود الفعل التي أثارها هذا الحدث الأليم في أهل القرية، وفي (صراع الأفكار) الدائر في الحوار بين نماذج من رجالها، يتراءى له ما تحتاج إليه القرية من الإصلاح الذي وجد طريقه إليها من خلال الجيل المتعلم أستاذ القرية الجديد، وجيل آدم الذي تمتد معه ذكرى والدته وتوجه فيما أدخله إلى القرية من خدمات، وما أفاض به في وجوه الخير من صدقات وهبات. وأما في المدينة، وهي المسرح الثاني الذي تتحرك عليه شخصيات الرواية وتدور فيه أحداثها، فإننا نطالع ما أحدثته المدنية من تأثيرات أصابت الناس في عاداتهم وتقاليدهم وأدوات عيشهم، فحصة مثلاً على الرغم من نشأتها في أسرة محافظة تصر في حوارها مع شعيب على إقامة حفلة الزواج في فندق او بيت من بيوت الزواجات، حتى لا ينتقص من قدرها عند بنات أعمامها وبنات أخوالها، وعندما يعود شعيب إلى منزله بعد لقائه بأبي صالح يتجه إلى غرفته ويغلق على نفسه الباب، ثم يفتح جهاز التلفزة ليشاهد قصة حب مستلقياً على أريكة مريحة، وأم سالم تتيه بعطرها على زوجها شعيب، وتتباهى بالخروج إلى الأسواق قائلة: أما أنا فرائحتي دائماً عطر وريحان من الملابس ومن الأسواق التي أذهب إليها. وليت تيار المدنية المتدفق انتهى إلى هذا الحد، ولكنه تجاوز ذلك ليحدث الاختلال والتفكك في البناء الأسري، على النحو الذي ترمز إليه شخصية (أم سالم) في حوارها مع زوجها شعيب: أنا أيضا مثلك مرتبطة مع صديقاتي.. النادي لابد من الذهاب إليه يومياً.. بعد ذلك يأتي وقت زيارة مريضة أو قريبة.. أو أذهب إلى السوق بعد صلاة المغرب.. أما بعد العشاء فنكون زيارة فنكون معزومين.. أو لدينا دورية.. هذه مواعيد الشلة.. ماذا أعمل؟ لا أستطيع أن أغير في برنامجهن شيئا. إن (أم سالم) لم تستطع أن تغير من برنامجهن شيئاً، ولكنها أيضاً لم تستطع أن تتفادى تحطيم أسرتها وخسارتها لأبنائها، في إشارة واضحة من الكاتب إلى التفكك الأسري الناجم عن استجابة المرأة لمغريات المدنية وتخليها عن مسؤولياتها في العناية بأبنائها، لمداومة الخروج إلى الأسواق، وارتياد النوادي مع الصديقات. وما دام الحديث عما أصاب الحياة الاجتماعية من عوارض وأمراض فإن من الملائم ذكر ما أخبرت به الرواية من أشكال أخرى لهذه الأمراض التي لم يسلم منها المجتمع، ومنها ما يتمثل في (شعيب) وبعضها الآخر في أعوانه من ذوي المصالح، وهو ما عبر عنه الكاتب بقوله:( جعل العاملين معه وتحت إدارته يعتقدون أنه (أي مسؤول وحدته) شريك لشعيب في أعماله وسرقاته، بل اعتقد البعض أن شعيباً مجرد واجهة لذلك المسؤول في الغش والتلاعب والنهب والسلب). وفي موضع آخر يخبرنا الكاتب عن هذه الأمراض في حديثه عن شعيب: تباعد عنه أهله وأصدقاؤه القدامى ونبذوه، وتكاثر حوله المرتزقة والكذابون والمحتالون والدجالون. وأما (أبو النسر) مسؤول وحدة شعيب فقد أتى به الكاتب في روايته ليكون رمزاً للمسؤول المتسيب وما يجره أمثاله من الوبال على نفسه ومجتمعه،ومع ما تضمنته السطور من المظاهر السلبية فإن الكاتب لم يغفل تصوير الجوانب المضيئة منها، فتجارة السوق المزدهرة التي أشار إليها شعيب في حديثه مع جاره (أبو صالح) دليل على نمو اقتصادي مطرد جعل من المدينة مركز جذب للباحثين عن فرص العمل الملائمة لتحقيق الذات، مما يعني نمواً ديموغرافياً متسارعاً، صاحبه نمو عمراني وإقبال متزايد على شراء الأراضي، أدى إلى رواج تجارة العقارات، التي جعلت من آدم بعد أن أصاب ثروة طائلة منها رمزاً لانتماء الإنسان السعودي إلى وطنه، يبذل من أجله ماله ويخصه بكل اهتمام. وأما في الجانب التعليمي فإن الرواية تخبرنا بازدهار الخدمات التعليمية التي توجت بإنشاء الجامعات لمساعدة الشباب السعودي من الجنسين على متابعة تعليمه وإعداده لأخذ دوره في مسيرة البناء من أجل رفعة الوطن، وكأن التعليم صار أولوية وطنية. وإذ صح القول: إن أم آدم تمثل البطل الدرامي أو التراجيدي في الرواية بالنسبة إلى القرية التي نشأت فيها، فإن حصة هي البطل الدرامي في الرواية بالنسبة إلى المدينة، ولعله من المفارقة إسناد الكاتب دور البطل الدرامي في القرية وفي المدينة إلى المرأة، ولعله أيضاً المغزى المهم الذي أراده الكاتب، والمتمثل في تجسيد معاناة المرأة آنذاك، سواء المتعلمة (حصة) وغير المتعلمة (أم آدم) للفت الانتباه إليها، وتوجيه الجهود الإصلاحية نحوها، حتى لا تكون الخاسر في أي صراع وحدها، والضحية دائماً دون سواها. وفي قصة حصة مع شعيب تظهر حصة فتاة جامعية مثقفة، جمعت إلى جمال المنظر حصافة الفكر وقوة الملاحظة، ودقة الفراسة، وكمال التهذيب، تسكن مع أسرتها في منزل مستأجر، ولها طموح بأن تنال الشهادة الجامعية لتفيد منها في حياتها وتربية أولادها, وأما شعيب فإن له سجلاً سلوكياً غير مشرف عندما كان طالباً في المدرسة العسكرية، التي دخلها مكتفياً بشهادة المرحلة الابتدائية، ثم تخرج منها ليعمل براتب جيد في وحدة عسكرية بالمدينة، وتهيأ له العمل بعد دوامه الرسمي بتجارة العقارات، فأصاب غنى في مرحلة مبكرة من العمر. ومع سابق علمه بأن الفرق بينه وبين حصة فرق علم وأخلاق، فقد دفعه الاغترار بماله إلى خطبتها. وباستغلال عنصر المونولوج الداخلي يصور لنا الكاتب الصراع الذي دار في نفس حصة بعد لقائها مع شعيب، وهو الحدث الدرامي الأول في قصتها معه، فيقول: كانت عندما تقوم قدرة شعيب على الكلام والتحدث مثلا تقول في نفسها:كيف سيتصرف لو كان هو والدي أو أخي؟.. ثم قالت في نفسها: لعلي بالغت من تضخيم النقاط السلبية التي لم يظهر لها علاج. وعلى أية حال فالكامل وجه الله، ولابد من التضحية. وكان من النقاط السلبية التي لاحظتها حصة على شعيب أنه متردد، وعلى ما يبدو مراوغ، ثم إنها حاولت أن تعزي نفسها بأن إحساسها مبالغ فيه، وأن الكمال لله وحده، ولم تكن هذه التعزية إلا محاولة منها لإيجاد ذريعة لاتخاذ القرار بالموافقة على هذه العلاقة غير المتكافئة مع ما تنطوي عليه من تضحيات. نقول هذا ونحن نتساءل عن الأسباب التي ترغم فتاة مثل حصة على الموافقة: هل الدافع إلى ذلك ثراء الرجل؟ أم قرابته الدانية من أخيه آدم صاحب الجاه والوجاهة والثراء، وصديق والدها الحميم؟ أم هو قطار الزواج السريع المتحرك بقوة تقليد الزواج المبكر، فلا وقت للانتظار أو التوقف؟ والذي يعنينا من هذه الأسباب المحتملة دلالتها الظاهرة على التقاليد الاجتماعية السائدة آنذاك، وشدة تأثيرها في توجيه الأحداث، ثم لا يلبث الكاتب أن ينقلنا إلى الحدث الدرامي الثاني بعد أشهر قليلة من الزواج، وتمثل هذا الحدث بما لاحظته حصة على شعيب من جفوة وإعراض، وتذرعها بالصبر والمدارة، فيقول: استمر شعيب في سلوكه، واستمرت في سلوكها، كلما زاد جفاء زادت تقرباً، كلما عبس ابتسمت، كلما تكلم بتشنج أظهرت هدوءاً وسكينة واحتراماً، ثم يأخذ هذا الحدث في التعقيد على النحو الذي نراه في الحوار الآتي: حصة: إن لم تتغير فقد نحتاج إلى جولة أخرى. شعيب: هل هذا تهديد؟ حصة: لا يا حبيبي.. نحن روح واحدة، وجسد واحد، وقلب واحد, والمتأمل في المضامين السابقة يرى فيها ما يشبه الانكسار والخضوع من حصة، مقابل الغطرسة والعنجهية من شعيب، هذا مع العلم أن حصة لم يكن يعوزها الحزم لو أرادته، فما الذي يدفعها إلى استجداء رضا الزوج على هذا النحو الذي لا يخلو من مهانة؟أهو أثر التنشئة التي تحثها على التشبث بعقدة النكاح؟ أم هو الحس الوطني بأن لبنة مباركة وضعت في بناء المجتمع فينبغي صونها للحفاظ على تماسكه؟ أم هو الخوف من العواقب وانتظار الأسوأ؟وتزداد الأحداث تعقيداً وتأزماً حين تطلب حصة الطلاق من شعيب، بعد إدراكها بأن علاقتها الزوجية معه لم تكن إلا ضرباً من خداع الأماني، وهنا تحدث المأساة حين يشهر شعيب في وجهها السلاح الرهيب الذي تظل معه معلقة لا زوجة ولا مطلقة، أو تعيد إليه كل ما دفعه عليها: حصة: أنا لا أستطيع الاستمرار في هذا النمط من الحياة. رد عليها: أطلقك شريطة إعادة كل ما دفعت عليك. قالت له: أتستعيد مهري وتكلفة حفلة زفافي؟ قال: نعم، أنت الراغبة في الانفصال وعليك الدفع. فلم يكن بد من أن تلجأ حصة إلى لغة العنف للخلاص من براثن شعيب، ووضع نهاية حزينة لأحلام كان بالإمكان تحقيقها في ظروف زوجية أفضل، ثم لا تلبث أن تقبل بتواضع لا مناص منه بالزواج من رجل يكبرها بعشرين سنة، توفيت زوجته وتركت له ثلاثة أطفال: ابناً وبنتين، وهي نهاية أخرى لحياة ماضية تثير في الذهن أكثر من سؤال برغم أنها بداية لحياة آتية.
|