Saturday 2nd July,200511965العددالسبت 25 ,جمادى الاولى 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

لا تغضبلا تغضب
خالد عبدالعزيز الحمادا/بريدة

الغضب خلق سيئ ومشاعر سلبية تنبع من داخلنا، وهو ضعف لا قوة.. ضعف مع أنفسنا؛ لأننا لم نتملكها، ولأننا سمحنا للمشاعر السلبية بأن تتسرب إليها وتتأثر بها، وكذلك سمحنا للشيطان بأن يلقي جمرة في قلوبنا مما جعل ضغطنا يرتفع ودمنا يلتهب ونبضات القلب تسرع وترتفع وهضمنا يضطرب ووجوهنا تحمر وتتغير.. حتى تفكيرنا غطته سحابة الغضب.
(لا تغضب) حروف قليلة وكلمة بسيطة الشكل لكنها دسمة المضمون..
(لا تغضب) حروف نورانية تلغي الظلام وتغلق نوافذ الشر وتدعو النفس الى أن تحفظ توازنها وتستمتع بحياة مطمئنة هادئة..
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنْ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أوصِنِيْ، قَال: لاَ تَغْضَبْ) رواه البخاري.
وروي عنه أيضاً أنه قال (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وكذلك بيّن صلى الله عليه وسلم أن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم.
وعندما رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً قد غضب غضباً شديداً قال: (إني أعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد - يعني الغضب - لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
وصية نبينا صلى الله عليه وسلم واضحة ولا تحتاج إلى إسهاب، لكن ما أردت أن أبينه هنا هو أن الغضب طبع سيئ ممكن أن نزعزعه ونستبدله بطبع كريم وهو الحلم. بعض الناس قد يرد عليك بأنه وُلد ومعه الغضب، فهو مجبول عليه، وينطلق من قاعدة تتداولها الألسن وهي (حدِّر جبل ولا تحدِّر طبع) وهناك مسلَّمة نشأ عليها الناس وهي أن الطباع تولد مع الإنسان فهذا خلقه وهذا قضاؤه وقدره وليس له إلا أن يسلِّمَ بذلك ولا يجهد نفسه بتغيير طبائع متأصلة فيه ومجبول عليها.. هذا كلام خاطئ وفَهْم ضيق وكسل مقيت ويعارض ويخالف وصية الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تغضب) وأحاديثه الأخرى التي تنهى عن الغضب.
صحيح أن الإنسان بتوفيق من الله قد يجبل على أخلاق طيبة منذ ولادته لكن هذا لا يغلق باب فعل الأسباب واكتساب الطبائع الحسنة، ولا يعني أن الإنسان ليس بمقدوره أن يفعل شيئاً أمام أخلاقه السيئة.
. ولو كان الأمر كذلك لما كان هناك فائدة من وصايا الرسول الكريم في الأخلاق والقيم، ولاقتصر الحلم على الأحنف والشجاعة على عنترة والكرم على حاتم.. إلخ.
بالإصرار والعزيمة وقوة الإرادة والتدريب والممارسة يستطيع الإنسان أن يكتسب جُلّ الصفات الحميدة التي حثّ عليها الإسلام.. وما يؤكد ذلك وصايا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الغضب، وهو من أعقد الطباع وقد يصعب على الإنسان دفعه، وكذلك سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد الحلماء عن حلمه هل جُبل عليه أم اكتسبه فرد الرجل بأنه جبلة وطبع، وكذلك الأحنف بن قيس الرجل الحكيم الحليم الذي أصبح مضرب المثل في الحلم حتى قالوا (أحلم من الأحنف) سُئل مرة ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري، وهذا دليل على أن حلمه مكتسب من خلال تدريب وصبر وممارسة؛ ولذلك كان يقول: لست حليما ولكني أتحالم. وقال له رجل مرة علمني الحلم يا أبا بحر فقال: هو الذلُّ يا ابن أخي، أفتصبر عليه؟ وسُمع منشداً:


ولربما ضحك الحليم من الأذى
وفؤاده من حرِّه يتأوّه
ولربما شَكل الحليمُ لسانه
حذر الجواب وإنه لمفوَّهُ

إذن، نفهم من هذا أن الأحنف تدرب على الحلم واكتسبه وروَّض نفسه على الصبر والأناة والتعامل بتروٍ وحكمة أمام المواقف والأحداث المثيرة والمغضبة.
(لا تغضب) أي امنع نفسك عن الغضب، وسيطر على عاطفتك ومشاعرك.
لا تسمح للظروف والأحداث أن تستفزك وتثير غضبك.. كن حليماً ودرب نفسك على الحلم وحاول أن تكتسبه.. تعوّذ من الشيطان عند كل موقف يثير الغضب، وإن اشتد عليك فتوضأ، واجلس إن كنت قائماً، واضطجع إن كنت جالساً كما بيّن عليه الصلاة والسلام.
وأيضاً ابتسم في وجه مَنْ يحاول استفزازك وإغضابك كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرجل الذي جذب رداءه فحز عنقه، ومع ذلك يلتفت إليه الرسول وهو يبتسم لأنه لا يريد أن ينفذ هذا الخلق السيئ والطبع الذميم إلى نفسه، وحاشاه عن ذلك وهو مَنْ (أدبه مولاه فأحسن تأديبه)، وقال مخاطباً له في كتابه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وكذلك يريد أن تهدئ الابتسامة روع الرجل وتبدد وتذيب الغضب الذي يستشيط من نفسه.
من الآن قل لنفسك: أنا لا أغضب. كرره أكثر من مرة، وإذا مرّ بك الموقف تعوّذ من الشيطان، وأكد على نفسك بأنك لن تسمح بهذا الموقف أن يستفزك ويستثيرك.. جرب وحاول ولا تيأس.. محاولة تعقبها بأخرى، وموقف بعد موقف حتى يذهب عنك الغضب وتكتسب الحلم.
ولعلي أختم بهذه القصة؛ لترى كيف وطّن معن بن زائدة نفسه على الحلم ودربها عليه.. فكلما اشتد الموقف وازداد غضباً مَنْ جاء ليغضبه ازداد معن هدوءاً وتماسكاً وحلماً: يروى أن جماعة تراهنوا على مائة ناقة لمن يُغضب (معن بن زائدة) ويخرجه عن حلمه.. فانطلق أحدهم ودخل المجلس ولم يسلم، وقال لمعن بن زائدة وكان يومئذ والياً:


أتذكر إذ لحافك جلد شاة
وإذ نعلاك من جلد البعير؟!

فقال معن: أذكره ولا أنساه والحمد لله..
فقال الرجل:
فسبحان الذي أعطاك ملكا
وعلمك الجلوس على السرير!فقال معن: له الحمد والشكر على ما أعطى..
فقال الرجل:


فلستُ مسلما ما عشتُ دهرا
على معن بتسليم الأمير

فقال معن: السلام خير، ولن أضر إن لم تسلم..
فقال الرجل:


سأرحلُ عن بلاد أنت فيها
ولو جار الزمان على الفقير

فقال معن: إن جاورتنا فمرحبا، وإن رحلت فبالسلامة.. فقال الرجل:


فجد لي يا ابن ناقصة بمال
فإني قد عزمت على المسير

فأعطاه معن ألفاً.. فقال الرجل:


قليلٌ ما أتيتَ به وإني
لأطمع منك في المال الكثير

فأعطاه ألفاً أخرى.. فقال الرجل:


فثنّ فقد أتاك الملك عفوا
بلا عقل ولا رأي منير

فقال: أعطوه ألفين.. وقال: هل هدأ بالك يا أخا العرب؟!
فبكى وقال:


سألتُ الله أن يبقيك دهرا
فما لك بالبرية من نظير
فمنك الجود والإفضال حقا
وفيض يديك كالبحر الغزير

فقال معن: أعطيناه أربعة على ذمة فأعطوه أربعة على مدحه.
ثم اعتذر الرجل وقصّ عليه القصة، وقال: خسرتُ أيها الأمير مائة ناقة.. فأمر له بالمائة لأصحاب الرهان، وله بمائة غيرها.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved