Friday 2nd September,200512027العددالجمعة 28 ,رجب 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "أفاق اسلامية"

حديث المنبرحديث المنبر
براءة الإسلام من مسلك الغلو والاعتداء
صالح بن عبدالرحمن الخضيري (*)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إلا إله الله وحده لا شريك له، وأشهر أن محمداً عبده ورسوله صلى عليه الله وملائكته والمؤمنون ما تعاقب ليل ونهار وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي - أيها المسلمون - بتقوى الله عزّ وجلّ والتمسك بدينه، والحذر من محدثات الأمور، ومزالق الهوى وسبل الضلال والانحراف، قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أيها المسلمون:
لقد منّ الله على هذه الأمة بعد ما عاشت حقباً من الزمن في الجهالة والضلالة ببعثة نبي الرحمة والهدى محمد بن عبدالله رسول الله وخليله - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله بالحنيفية السمحة، فبدد نور هذه الرسالة المباركة ظلمات الشرك والوثنية في الجزيرة العربية، وأشرقت الأرض بأنوار الوحي، واختفت ضلالات النصارى وتشديداتهم المبتدعة، وتحريفات اليهود وافتراءاتهم المتعددة، فصار المسلم يقرأ ويعتقد في كل ركعة من صلاته مضمون الآيات الكريمة {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ، وتلك نعمة عظيمة أشاد الله بها في آيات متعددة كقوله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} آل عمران (164). وكقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء (107)
والقرآن الذي أُنزل عليه كتاب يهدي لأحسن الطرق: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } الإسراء (9).
وهو الهدى والرحمة قال سبحانه: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ( 89 ) النحل.
إن الإسلام - يا أهل الإسلام - بنبيه المُرسل وكتابه المُنزل يدعو لأعدل الطرق وأصوب الأحوال من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والقدر خيره وشره، والقيام بأركان الإسلام الخمسة، ويأمر بالعدل وحسن الخلق، وأداء الأمانة والوفاء بالعهد ويدعو إلى الوسطية في جميع الأمور وينهي عن أضداد ذلك - من الكفر والغدر والخيانة والظلم والغلو والهوى.
يقول الله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .
روى البخاري في صحيحه (4487) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول نعم فيقال لأمته: هل بلغكم، ما أتانا من نذير فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فتشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً فذلك قوله - جل ذكره - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. والوسط العدل.
نعم - أمة الإسلام - هم العدول الخيار توسطوا في الدين فلم يكن فيهم غلو النصارى الضاليل الذين غلوا بالترهب وفي عيسى ولم يكن في هذه الأمة تقصير اليهود المغضوب عليهم الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا الأنبياء وكذبوا على ربهم وكفروا به.
لقد نهى الله تعالى - عن الغلو ووجه الخطاب لأهل الكتاب بالخصوص وهو عام لهم ولغيرهم، قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } (171) سورة النساء.
وقال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } (77) سورة المائدة.
فالغلو وإن كان يوجد عند اليهود فهو في النصارى أكثر في الاعتقادات والأعمال ولذا خصهم القرآن بالتحذير من الغلو ونهيت هذه الأمة عن التشبه بهم.
ولقد نهى الناصح الأمين رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أمته عن الغلو لئلا يقعوا فيما وقعت فيه الأمم قبلهم فروى أحمد والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم - غداة جمع - هلم القط لي الحصى (يعني حصى الجمار) قال: فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعن في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -: (وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه مثل: الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنها أبلغ من الصغار ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم أي: هدي من كان قبلنا إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، وإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك).
كما بيّن صلى الله عليه وسلم مآل من غلا وأنه يصير إلى الهلاك فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً وكل من شدد على نفسه بمالم يرد في الشرع فإن الله يشدد عليه والجزاء من جنس العمل سواء كان هذا في الاعتقاد أو في أبواب الطهارة أو المعاملة أو غيرها، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
أيها المسلمون: إن دين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام وهو بين الغلو والتقصير وبين الأمن واليأس، ولا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق والوسط إلا عجز وانقطع وغلب. وفي صحيح البخاري من أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
أيها الإخوة:
إن الغلو هو أول خطوات الانحراف عن الدين القويم، والوقوع في الشرك العظيم، كما حدث لقوم نوح وكما فعل اليهود في تأليه العزير والنصارى في تأليه المسيح، وكما هو الواقع في حياة بعض المسلمين حيث دب فيهم هذا الوباء القاتل ولم يزل في ازدياد حتى جهل كثير منهم معنى التوحيد والعبادة فوقعوا في الشرك بسبب الغلو ومجاوزة الحد المشروع قال ابن القيم في إغاثة اللهفان 2/222 (ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعل فيه حظ من الألوهية، وشبهوه بالله سبحانه وهذا التشبيه الواقع في الأمم هو الذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله، وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله) ا.هـ.
هذا ولقد حذّر رسول الله صلى الله من الغلو في شخصه فقال بما في الحديث الصحيح: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد (فقلوا عبدالله ورسوله) فكيف بالغلو والإطراء لمن دونه من الناس كما يفعله بعض أهل البدع والأهواء المضلة.
عباد الله:
احذروا أن تزيدوا في دين الله ما ليس منه أو تشددوا في الأحكام والاعتقادات ما يخالف الكتاب والسنة فكل بدعة ضلالة، وكل رأي أو فكر أو منهج يخالف القرآن والسنّة فهو مردود على صاحبه قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود على صاحبه.
ولقد جاء ثلاثة نفر إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقال أحدهم: ما أنا فأصلي الليل ولا أنام، وقال الآخر: أصوم الدهر فلا أفطر، وقال الثالث: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبداً فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) خرجه البخاري (5063).
أيها المسلمون: الغلو في دين الله يحصل من بعض الناس لأسباب كثيرة أشير إلى ثلاثة منها:
الأول: الانسياق وراء العاطفة المجردة والحماس غير المتزن وعدم ضبط النفس والتحلي بالصبر والأناة.
والسبب الثاني: ضعف العلم الشرعي أو تلقيه من غير أهله فينشأ عن ذلك الأخذ بالمتشابه وعدم رده إلى المحكم والخطأ في فهم القرآن والسنّة. والعزلة عن أهل العلم، أما السبب الثالث:
فهو شيوع الظلم ووجود المنكرات خاصة تلك التي ليس لها ما يبررها، ومهما يكن من أمر فالغلو في دين الله له نتائج خطيرة وآثار سيئة فهو مبعد لصاحبه عن الله عز وجل، ومسبب تلبيس الشيطان له، حتى إن الغالي في دين الله قد يفعل أفعالاً يظنها تقرّ به إلى الله وهي من موجبات سخطه وعقابه.

(*) إمام وخطيب جامع الوسيطي ببريدة

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved