في سابقة جادة وجديدة نحو تحقيق المزيد من التلاحم الوطني بين شعب هذه البلاد مواطنين ومواطنات وبين قيادته، جاء استهلال عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز واستمرار مسيرته القيادية بمبادرة خادم الحرمين الشريفين في الاستجابة لتطلع نساء هذا الوطن إلى لقائه؛ لتقديم البيعة وللتعبير عن الولاء والانتماء ولإطلاعه عن قرب على بعض الآمال والأحلام، التي من شأن التشارك في شأنها أن يضع المجتمع بجميع قطاعاته أمام مسؤولية معاضدة قيادته، على ما فيه إحقاق للحق ودفع لعجلة التنمية ومجابهة للتحديات. فبما عرف عن الملك عبد الله من سعة الأفق والعدل والتفاني في حمل الأمانة، قام باستقبال وفد من السيدات التربويات في مجال التعليم، وتبعه في غضون أسابيع قليلة استقباله جمعاً من النساء من المنتميات إلى كل من مجالي الثقافة والإعلام. وإذا كان من المتفق عليه ما لهذه المبادرة وما لهذه اللقاءات من قيمة معنوية رمزية عند بنات وأبناء هذه البلاد، فإنه يبقى قراءة قيمتها المعنوية والعينية معا على المستويين الداخلي والخارجي في التعبير عن الجذر التاريخي لطبيعة العلاقة بين الشعب والقيادة السعودية من ناحية، وعن طبيعة توقعات المرحلة القادمة في حياة المجتمع السعودي قيادة وشعباً من الناحية الأخرى. فمن الناحية التاريخية لا بد أن الذاكرة الجمعية لا تزال تحتفظ لمؤسس الدولة السعودية المعاصرة الملك عبد العزيز موقفه الشوري بعد انتهاء المرحلة الأولى من إرساء الحكم السعودي، وتوقف المواجهات العسكرية لتلك المرحلة بعد عام 1932م، ومنها قولته الشهيرة : (أهلُ مكة أدرى بشعابها) في موقف رمزي للأخذ برأي أصحاب الشأن في تمثيل مجتمعهم والتحدث عن شؤونهم وشجونهم. وتلك التجربة وإن اعترضها التقطع فلا تتذكرها الصحافة الخارجية الأجنبية خاصة، فإن منا الكثير ممن لا ينسون تلك الوقفة ويروونها للأجيال التالية من الأبناء والبنات، فقد سمعت بتلك الوقفة في طفولتي من والدي عشرات المرات قبل أن أقرأها مدونة في كتب التاريخ. وهم وأمثالهم خاصة من أجيال الحاضر يرون أن وصل ما انقطع من تلك التجربة أصبح ضرورياً بعد أن اتسعت رقعة التعليم والمتعلمين والمتطلعين للمشاركة الوطنية، بكل ما أوتوا من حب لتراب هذه الأرض وبكل ما تطور لديهم من وعي ورشد في وزن التحديات الداخلية والخارجية بميزان العقل والرأي. أما الناحية الأخرى وهي قراءة علاقة مثل هذه اللقاءات بتوقعات المرحلة في العلاقة بين القيادة والمجتمع، فإن من التقصير أن تقرأ فقط في ظل الظروف الداخلية والخارجية الراهنة على ما في هذه الظروف من صعوبات ومشقة على القيادة والمجتمع معا، إذ لا بد لاكتمال القراءة أو على الأقل لمحاولة ذلك أن تقرأ في ضوء بارقة الأمل التي ترمز إليها، كما لا بد من قراءتها في ضوء المستقبل وأسئلته ومستحقات أن يكون مستقبلا أجمل. فقد سمعت وقرأت بعض تلك الآراء غير الدقيقة إن لم تكن لا تخلو من سوداوية التي تحاول أن تصادر استبشار المواطن السعودي بمثل هذه المبادرات عن طريق تحجميها في أغراض دعائية داخليا أو (تلميعية) خارجياً - لا سمح الله -، وأرى أن مثل هذه الآراء عدا عن أنها قد تكون متعجلة فإنها لا تصدر في الغالب إلا عمن هم بعيدون عن التجربة السعودية وإيقاعها اليومي، فلا يرون سجالها وجدل قواها الاجتماعية ولا يعترفون بتعقيد التحولات، كما أنهم يكتفون بالربط بين المستجدات وبين حرج الظروف الداخلية والخارجية الراهنة دون أن يربطوها برهان المستقبل. فيصير الرد على مثل هذه الآراء بواقع عملي يحقق دواعي استبشار المواطنين بمثل هذه المبادرات، ويوضح تعجل تلك الآراء وذلك أيضاً جزء من تحدي الراهن والمستقبل معاً. ولكل ما تقدم فإنه في قراءة علاقة هذه اللقاءات بتوقعات المرحلة ودون تحميلها أكثر مما تحتمل، لا بد من رؤية إستراتيجية لها تضعها في سياق المستقبل ولا تقصرها على مقابلات عابرة. وذلك لن يكون إلا بتحويلها إلى جزء من آلية منظمة، وبإعطائها أشكالاً متبلورة ومتعددة غير نخبوية ومتطورة من آلية العلاقة بين القيادة والمجتمع، وبالخروج منها بنتائج إصلاحية وتطويرية ملموسة للمواطن والوطن. إن مما قد يميز عقد مثل هذه اللقاءات التي بدأت المبادرة لها من عام 1422هـ عن طريق لقائها الأول بمجموعات من قطاع التربية والتعليم هو أنها تلمح إلى نقلة في المجالس المفتوحة المعتادة للقيادة من سقف القبيلة إلى أفق الوطن. وذلك أن اللقاء يتم بالمنتمين إلى هذا أو ذاك من القطاعات المهنية في الدولة. كما أن مما يميزها أنها تعمم سقف المطالب من مطلب منحة أرض أو منحة مالية خاصة إلى أفق المطالب العامة المتعلقة بالقطاع المهني المعني أصحابه أو ثلة من أصحابه باللقاء. كما أن مما يميزها أنها شملت اللقاء والاستماع إلى عدد من المجموعات المهنية لنساء هذا الوطن وذلك بحد ذاته حسب التحليل السيسولوجي يشكل بالإضافة إلى مؤشر التحول من السقف القبلي إلى الأفق الوطني مؤشراً للتحول من أفق العزلة بين المجال العام والمجال البيتي للمجتمع إلى فضاء بناء المجتمع المدني المكون من المواطنين نساء ورجالا المتساوين في الحقوق والواجبات. ومنها حق وواجب المشاركة الوطنية وعدم الانسحابية أو اللامبالاة أو التهميش. وقبل أن أختتم هذا الجزء من المقال يهمني أن أنوه بأنه ليس استرضاء لأمريكا أو سواها، فإن من المهم لهذا المجتمع كمجتمع عربي إسلامي وخاصة وأن أراضيه المقدسة تقف قبلة للمسلمين ألا يظهر وكأنه مجرد مجتمع ريعي رعوي ليس للمرأة فيه سوى موقع التابع الغائب، ولذا فلا ضير علينا أن كان من أهداف مثل هذه اللقاءات التحاورية بين القيادة والقطاعات المهنية المختلفة هو تصحيح الصورة والواقع معاً. هذه كانت محاولة لتقديم قراءة اجتماعية (متوازنة) لفكرة اللقاءات بين القيادة وعدد من المجموعات المهنية بشكل عام، أما من واقع التجربة فليس لي أن أقول إلا أن لقاء خادم الحرمين الشريفين بعدد من الكاتبات والإعلاميات يوم الجمعة الماضي كان خطوة شجاعة من القيادة في التعبير عن الحرص على تطوير موقع النساء في العمل الثقافي الذي يعكس الوجه الحضاري للأمم. وقد كان جهد وزارة الثقافة والإعلام في الإعداد له جهداً جميلاً ورائداً. تبقى هناك بعض النقاط العجلي التي أرى طرحها تثمينا لأمانة مثل هذا اللقاء. ومن هذه النقاط : * بتثمين لا يحد لمثل هذه اللقاءات فإننا نساء أو رجالاً أمام صاحب القرار وأمام مسؤولية عظمى في التعبير عن متطلبات الارتقاء بالواقع الثقافي ومتطلبات قاعدته العريضة في ذلك. * على الأهمية القصوى لما طرح في ذلك اللقاء للمجتمع وللمشتغلات بالشأن الثقافي خاصة، فإن هذه اللقاءات في المستقبل - بإذن الله - بحاجة ماسة إلى مزيد من تحديد المطالب، كما هي بحاجة إلى توسيع دائرة المشاركة وعدد المشاركات فيها بما يطمح إلى تطوير موقع عمل المرأة الثقافي والإعلامي. * هناك مطلب تمثيل المشتغلات والمختصات بالشأن الثقافي في الوظائف الرسمية للثقافة والإعلام في الدولة في المؤسسات الرسمية والأهلية مثلها مثل الجامعات الحكومية والأهلية على سبيل المثال. * هناك مطلب التصريح بإقامة مؤسسات ثقافية أهلية بشقيها المهني والثقافي. * هناك مطلب التصريح بإصدارات ثقافية متخصصة في الأدب والبحث والرأي. * هناك مطلب وضع حد أدنى للحقوق المادية للكاتبة والإعلامية، بالإضافة إلى وضع ضمانات لحقوقها الأدبية. * هناك مطلب تخويل وزارة الثقافة والإعلام من الصلاحيات ما يمكنها من تحقيق جميع المطالب المشروعة في هذا الشأن مما يقع في دائرة اختصاصها. * هناك التماس الإحالة إلى القضاء في حالة ما يعتقد أنه تجاوز في الكتابة وعدم تدخل الجهات الأمنية إلا في حالة صدور حكم قضائي. * هناك التماس بإعادة النظر في قرار الربط بين التوقيف عن العمل أو الفصل من الوظيفة على مواقف التعبير عن الرأي. وأخيراً فقد كفى الملك عبد الله بن عبد العزيز في لقائه الغالي الحضور مؤونة طرح الكثير من هذه النقاط وغيرها مما طرح في ذلك اللقاء ومما لم يطرح في قوله المختصر البليغ بشأن حرية التعبير، في كلمة الحق ليس من يلومكم. جعل الله عهده عهد صلاح وإصلاح وتأهيل وتلاحم في أمن وسلام هذا الوطن وأهله قيادة وشعباً.. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|