Thursday 22nd September,200512047العددالخميس 18 ,شعبان 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

صخور العنصرية تحتاج إلى معاول يا( كاترينا)صخور العنصرية تحتاج إلى معاول يا( كاترينا)
عبد الله بن ثاني

عندما صرخ ذلك الزنجي قائلا: (إن أعمال الإغاثة والإنقاذ في المناطق التي يقطنها الزنوج لا تجري بالكفاءة والسرعة التي تجري عليها عندما تكون المنطقة المنكوبة مسكونة بالبيض)، وقال آخر: (هذه حقيقة من حقائق الحياة في الولايات المتحدة يا سيدي الرئيس) لم يكن ذلك في بلد من البلدان النامية، أو المتخلفة، أو المستقلة حديثا، ولم يكن ذلك في وادٍ سحيق من أودية أدغال إفريقيا، ولا في جزر معلقة غير معروفة في المحيط الهندي، وإنما دوَّت هذه الصرخة في بلد الحضارة والعدل والمساواة التي انتهى التاريخ على يديها كما زعم فوكوياما على لسان كاترينا، يا إلهي: رجال شرطة مذبوحون، والذي لم يذبح انتحر، أطفال صغار يثيرون الشفقة في أي قلب سليم، تناثرت أشلاؤهم، صبايا فقدن أجمل شيء، شوارع دكها الموت والخراب كأن لم تغن بالأمس، نار في كل مكان، جنود ينهبون، سطو مسلح وغير مسلح بمجرد غياب النظام، مما يحطم كل النظريات والرؤى التي تقول إن التاريخ انتهى على يد أمة من الأمم لأن الإنسان لم يزل يعيش الفوضى، والعنصرية، ومصائب اللون والعرق حتى أصبحت ظاهرة من خلال المجازر البشرية، وحروب الإبادة، وانتهاكات حقوق الإنسان، والاستنساخ، والهندسة الوراثية، وبطش القوى الكولونيالية الجديدة، ونهب الثروات الوطنية على يد الوطنيين أنفسهم، والطارئين والغزاة، وأصبحت شعارات العالم ومواثيقه واتفاقياته مستحيلة التطبيق، وإلا ما تفسيرهم بصنع أيديهم مدنا منكوبة وتناسوا تطبيق اتفاقية جنيف عندما تحظر هدم منازل المواطنين وأن تؤذيهم بأي طريقة، كأن تجعلهم فقراء أو تجعلهم بدون مأوى، يستبيحون كل محرم ويأخذون البريء بذنب غيره وتنص المادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة على: (لا يجوز معاقبة أي شخص محمي من مخالفة لم يقترفها هو شخصيا، وتحظر العقوبات الجماعية).
وفوكوياما الذي أنهى التاريخ لا يجد تفسيرا لهذه المعاناة السيزيفية عند البشر - مع عدم إيماني بها - نسبة إلى سيزيف الذي حكمت عليه الآلهة كما يزعمون برفع كتلة من الحجارة إلى قمة جبل، وما أن تصل إلى القمة حتى تنزلق إلى السفح من جديد، وتبدأ معاناته بالصعود إلى القمة في ظل صخرته المتدحرجة وهكذا الحال منصوبة أيضا.
إن (كاترينا) هذه ليست اسما لمغنية، ولا راقصة، ولا حيوان أليف كما يبدو لنا رقة وعذوبة من أول وهلة، بل كان اسما لإعصار مدمر رفع درجة القوة إلى أعلى فئة على مقياس سافير سيمبسون المكون من خمس درجات.
وبلغ ضغطه المركزي وهو مقياس كثافة العواصف 904 مليبار، ما يجعله واحدا من أقوى أربعة أعاصير في تاريخ الولايات المتحدة، وبخاصة مدينتها المنكوبة، نيو أورليانز في لويزيانا المنكوبة، التي أسسها الفرنسي جان باتيست لو موان في 1718م، وأطلق عليها اسم الوصي على العرش دوق أورليان، وكانت في الماضي مركزا تجاريا تابعا لشركة مسيسيبي ثم أصبحت عاصمة لويزيانا الفرنسية عام 1722م.
وفي 1803م باع نابليون بونابرت المدينة إلى الولايات المتحدة مع مساحة كبيرة تمتد حتى كندا 1.2 مليون كلم مربع، فالمدينة كُتب عليها الرق والبيع في سوق النخاسة من زمن سحيق، وكان يجلب لها العبيد المخطوفون من إفريقيا في تلك السفن الكبيرة ليشهد العالم أن هناك مدينة منكوبة في تاريخها تتناسب مع مصير سكانها المنكوبين على شرف كاترينا.
لقد صرح جفرسون لتلفزيون (ام. اس. ان. بي. سي) انه (في نيو أورليانز، أفقر الناس وأكثرهم احتياجا هم السود ولا شك في ذلك. ولذلك فإنني أشك في أن وقت الاستجابة وغير ذلك له علاقة بأن هؤلاء هم من السود).
وقال عضو الكونجرس الايجا كمنغز (إن ما يحدد من عاشوا ومن قتلوا في هذا الإعصار المدمر والفيضانات هو الفقر والسن ولون البشر).
وأضاف (لقد أجريت نقاشا بناء مع كبير مساعدي الرئيس للسياسة الداخلية. وقال إن الرئيس يتحرك بأسرع ما يمكن وأنهم (الإدارة الأمريكية) يبذلون ما في وسعهم. وأنا لا أعتقد أن ذلك صحيح). وكتب ديفيد بروكس في صحيفة (نيويورك تايمز) دائما ما نتجه إلى التفكير في أنه عندما تقع الأعاصير والفيضانات فإن الناس يجتمعون لتقديم المساعدات والمواساة.
وأضاف (ما يحدث في نيو أورليانز والمسيسيبي الآن هو مأساة إنسانية. ولكن عندما نلقي نظرة فاحصة على الناس الذين تراهم يهيمون على وجوههم وقد فقدوا كل شيء في نيو اورليانز، ترى أن معظمهم من السود والفقراء.
وقال عضو الكونغرس عن ولاية لويزيانا وليام جفرسون (لو لم يكونوا من السود والفقراء، لما تركوهم في نيو اورليانز)، مؤكدا أن معظم الضحايا لم يتمكنوا من الفرار من وجه الإعصار لأنهم لم يكونوا يملكون سيارات أو أموالا يدفعونها للفنادق.
وقال العمدة راي ناجين عشية زيارة الرئيس جورج بوش التفقدية للمنطقة المنكوبة أن بوش وآخرين في إدارته حلقوا لوقت قصير بطائرة، خلال رحلة الرئيس من تكساس إلى البيت الأبيض، واضاف: (حلقوا فوق المكان، من دون أن تغوص أرجلهم في الوحل وهكذا كونوا صورة عامة من فوق عما حدث).
وقد وقفت أمام قصة عائلة ريتا المنكوبة وقد نقلتها وسائل الإعلام وهونت ريتا وهي تجلس في ساحة منزلها من شأن تحذيرات السلطات من الأمراض قائلة: إن بإمكانها وعائلتها العيش بسهولة من دون خدمات والنوم في الظلام والطهو باستخدام الحطب. وقالت ريتا وابتسامة على وجهها فيما جلست بجانب زورق صغير مليء بالنباتات وغيرها من المنتجات (يعيش الأمريكيون حياة جميلة للغاية لذا عندما تحدث المصاعب لا يستطيعون احتمالها)، ورفضت إحدى آخر الأسر من سكان مدينة نيو أورليانز التي غمرتها مياه الفيضانات الخروج من المدينة لأن إعصار كاترينا هو مجرد حادث صغير ومزعج مقارنة بالكوارث التي شهدتها الأسرة.
إن داء العنصرية ودفع فواتير باهظة الثمن لمن يحمل جينات معينة أمر مرفوض في عالم يستعد لدخول الألفية الثالثة بعقلية متحضرة، وما تعمره تبرعات الأسرة الدولية في مكان ما في هذا العالم قد تهدمه بعد أيام على رؤوس الكائنات ومنها البشر بحجة من حجج هذا الزمن الفاشي، وما تحاربه في بلد من مبادئ فاشية قد تجد له مسوغا في بلد آخر والإنسان وحده منكوب من المهد إلى اللحد، حيره سيناريو هذه المسرحية التي تؤمن كثيرا بمصطلح النكبة والنكسة والمنافي والوصايات.
صدقا ليت العالم وهو يحتفل بهيئته الدولية يقف كثيرا عند مصطلح الإنسان المنكوب ولا يفصله عن مدينته، لأن مصيرهما مشترك، ولا تنفك العلاقة بينهما البتة، فمتى يكون الإنسان منكوبا إذن؟
باختصار عندما يتعرض لأعاصير تجتثه من فوق أرضه باعتبارات اللون والعرق والوصاية، التي لا تختلف سواء أكانت داخلية في الوطن الواحد أو خارجية، عندما يتعذر عليه العيش في مكان ما على ظهر هذا الكوكب، عندما ينفى إلى بحر متلاطم من الغسق إلى الغسق، بأنين يخترق السماء، وبكاء يهز الأرض من أطرافها، يرتج له الكون من أركانه يصفع الوجوه المتمدنة بالخزي والخذلان والتخلف، لا تنس هذه الرماح في الخاصرة وهي تشحذ الروح من عروقها الظمأى، ويمكن أن نتجاهل السراب وراء الخيام وهو يدعو أهل المضارب للرحيل، فالأرض مادت بما فيه الكفاية، ولم تعد تصلح للسكنى.. لأن العطاش ولدوا عطاشا، ترتطم بالأرض، تحفرها من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب ولم تجد ماء، فبأي كبد حرى تتقي الظمأ، أيها السراب مالك أعمى، أو ما ترى الشظايا تخترقها في شفق من عندك صارخ، آه في كل صباح يسربلها الجوع حتى تقعي وتتقيأ روحها.. ثم توقع صك حريتها.. وحينها لا يجدي أن تصرخ في وجه العالم (أضاعوني.. وأي فتى أضاعوا).. والله من وراء القصد.

الإمارات العربية المتحدة

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved