Thursday 3rd November,200512089العددالخميس 1 ,شوال 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

المتنبي.. لم يكن شاعراً في بلاط !!المتنبي.. لم يكن شاعراً في بلاط !!
عبد الله بن ثاني (*)

ضرب صاحبي الوسادة تحته بقوة احتجاجاً استنطقه قائلاً: (ويلي عليك، لو كان لي من الأمر شيء لقطعت لسان هذا الشاعر ثم قطعت أيدي هؤلاء المُصفقين، وجعلتهم في تلك الأمسية أبكم ينشد مجذومين). ما هذا الذوق الفاسد؟ وما هذه الأمسية المملوءة باللحن والأخطاء؟ قلت له: حتام أنت في غيّك وغربتك، وكأنك ولدت في عصور الاحتجاج اللغوي، إنك في زمن غير زمنك، أما آن لك أن ترعوي، وتدرك أنك لست في خلافة عبد الملك بن مروان، الذي نقد الشعراء وأصلح من أغاليطهم، الناس في عصر الحداثة وتجاوزوها إلى ما بعد الحداثة يا أخا العرب، ولم تزل تعوي إثر قوافي المتنبي عواد الفصيل الصادي كما قال الحطيئة ذات يوم..
فأجاب وخفت - والله أن يرميني بداهية - ويلك إذا كان القياس والمعيار قد استقرا في قضية ما، فهل دعوى التجديد غير المفهوم في ظل هذه الطلاسم والشيفرات تكون كمالاً يسمو أم نقصاً يتدلى، واستطرد قائلاً: أنا لست ممن يعصم المتنبي عن مقام النقد، ولكن منْ؟ وكيف؟ وبأيّ مقاييس نقدية، يحكمون المعيار الأجنبي في الشعر العربي وكأنهم تلك اللجنة التي تضع مضماراً يصلح للخيول الأجنبية لسباقات الخيول العربية الأصيلة، يا صاحبي إنهم ورب الكعبة يهذون، وفي غيهم يعمهون، وتصدروا منابر تستعيذ بالله من فساد ذوقهم وجنون طلاسمهم، إذا كنت ستسمي هذا الهذيان شعراً، وهذه الكلمات المتقاطعة نقداً فالصمم نعمة محسودة في سوق الصفارين (النحاسين)، بالله عليك أو ما سمعت قوله:


يقولون لي ما أنت في كل بلدةٍ
وما تبتغي، ما ابتغي جلّ أن يُسْمَا

كيف لي أن أتذوق بعد ذلك قول شاعر يقول: سأطلي وجه الشمس بدهن إبط العقرب ثم أسمع ناقداً يكتب صفحة في تحليل جمال النص العقربي، وصفحات ثلاث في نقد المتنبي الذي يعده شاعراً في بلاط دون أيّ قيم.. فأي عقلٍ لا يرى منظومات من القيم في قوله:


جود الرجال من الأيدي وجودهمُ
من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ

ولعمري إنه مما يشينه وينقص قدره أن يكون على طاولة نقد الحداثة التي تجرد النص من مؤلفه ومناسبته لتحكم على الأدب (الشاعر والجمهور) بالموت في ظل نقد ميت..
كثير ممن لم يفهم أبا الطيب يظنه متسولاً في بلاط وقد خاب أمله في مُحسن مزعوم، ولم ينتبه إلى ما وراء شعره، لقد تمنى أبو الطيب موت قيمة (الجود) لأن موت الحضيض في نفس أدعياء القيم يا أخا العرب، فقال: فلا كانوا ولا الجود لأن موت القيمة بالنسب إليه محتملاً، أما ابتذالها على يد الأدعياء فهو فوق الاحتمال..
دع أيّ ناقدٍ يبحث في أدبيات الصراع الإنساني، هل يجد إنسانية تماثل ما توافر في نفسه حينما قال:


كلما أنبت الزمان قناة
ركّب المرء في القناة سنانا

إنه يريد أن يثبت للبشر أن قضايا الإنسان من أنانية هذا الإنسان وعدوانيته مؤسساً بذلك منظومة للقيم كل أعضائها هو المتنبي.. قلت له مهلاً يا صاح، أليس القائل:


ومن يعرف الأيام معرفتي بها
من الناس روّى رمحه غير راحم

وما ذلك إلا دعوى للإبادة الجماعية وإلغاء الإنسانية على يد قاتل لا يرحم مخلوقاً، قال نعم هو مُحقُّ في ذلك، هلا قرأت هذا البيت في ضوء البيت السابق، فتفهمه بشكل بعيد عن النازية وستجد أنها ليست إلا نقمة من المتنبي على هذا الإنسان حينما فشل في الاستغراق في آدميته، لقد كان في حالة انتقاد حادة لمنهج البشر الشرير، المتنبي فيلسوف لا مجرد شاعر في بلاط يبحث عن إمارة كما يزعمون، لقد كان أكبر من طالب كرسي، لأن الذي يفهم نفس أبي الطيب يعلم أنه يبحث عن وسيلة يقرر من خلالها بناء مجتمع بمواصفات إنسانية، ولا أدل على ذلك من قوله:


أريد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغه من نفسه الزمن

المتنبي لم يكن نرجسياً كما يزعمون في قوله:


ودع كل صَوْت غير صوتي فإنني
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى

وهذا يجعلنا نقف أمام زعمهم (المتنبي من شعراء البلاط)، لأن المدرك لطبيعة العلاقة بينه وبين سيف الدولة يعرف تفنيد ذلك جيداً، كلاهما أحب صاحبه، وكلاهما استفاد من قرب صاحبه، سيف الدولة اعتمد على وسيلة إعلامية ناجحة، والمتنبي اعتمد على قدوة سيف الدولة وما فيها من صفات عربية، ولا يمكن عقد مقارنة بين وضع الشعراء في هذا الزمن وذلك الزمن، لأن الناس وجدوا في وسائل إعلامية أخرى ما يغنيهم عن ألسنة الشعر والشعراء، ولذلك لم نسمع في هذا الوقت أن كتاباً أُلف لوزير، أو قرئ على وزير، لولا المتنبي يا أخا العرب لما سمع الناس بالدولة الحمدانية، التي كانت مجرد إمارة تحت الحكم العباسي مثل عشرات الدول التي بادت دون أن يخلدها التاريخ، كان تاريخها قبل المتنبي مجاهل وبعده مجاهل، ولا أبالغ إذا قلت إنه لم يسمع الناس بأمراء حمدانيين غير سيف الدولة مع أن والده شغل منصب أمير الأمراء وقسيم أمير المؤمنين العباسي، ولم يسمعوا أيضاً بطخج الأخشيدي، وهو حاكم أطول فترة في الدولة الأخشيدية، وعرفوا الأستاذ كافوراً وهو عبدٌ كان وصيّاً على العرش... ولقد هجاه المتنبي بأقذع الهجاء بعدما أحبط وتبددت آماله، ولم يكن منطلقاً من لونه الأسود، ولكن سوء قدره جعل تلك الزفرات تصب على رأسه في صور كوميدية، ولم يكن أيضاً بمنأى عنها ولو كان من أهل البيت في تلك الظروف والهزائم النفسية:


كفى بك داء أن ترى الموت شانيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا

كثير من الناس يسأل عن السر الذي جعل أبا الطيب يفتخر بنفسه في مدائحه لسيف الدول؟ وهل كان يليق بشاعر مادح ما يضفي على نفسه من صفات في حضرة الممدوح؟ ولماذا ارتضى سيف الدولة منه هذا الكبرياء في حضرته؟
إن شخصية مثل المتنبي لا تقبل الذوبان أبداً كما هو المعهود في شخصية المادح أمام الممدوح، وربما هذا ما أطال من عمر العلاقة والصحبة بينهما، لأن سيف الدولة باختصار لم يكن بحاجة إلا للمتنبي الحر، والدليل على ذلك كان رسمه على سيف الدولة أن ينشده الشعر جالساً بجانبه خلاف العادة، إذ تتنافر الصورة مع أجزائها لو كان قائماً بين يديه، فالمتنبي لم يكن يرى في سيف الدولة مجرد ملك وسلطة، وسيف الدولة لم يكن يرى في المتنبي مجرد شاعر مادح، وهذا أدى إلى كثرة حساده وخصومه، فألفوا فيه مساوئ المتنبي واتهموه وناصبوه العداء ظلماً وبغياً حتى ألف الحرجاني كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه، وربما لقرار سياسي ذي مصلحة ما تجافى الصاحبان وتفرق الصديقان، ولكن أبا الطيب لم ينس من سرى حبه في عروقه وهو في مصر، إذ يقول:
بم التعلّلُّ لا أهل ولا وطنُ
ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ
وكان ذلك رداً على من تولى كبر إشاعة موته في مصر، لقد كان بينهما عقد حياة باتفاق شرف مفهوم، ويظهر ذلك أيضاً في محضر الجلسة الأخيرة، تلك الميمية العاصفة:


واحر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم

وكان كلاهما يدرك أنه اللقاء الأخير، وإلا فليست هذه بلغة شاعر أمام ملك، ولا هذا موقف ملك من شاعر، اسمع إلى نهايتها:


إذا ترحلت عن قوم وكان بهم
ألا تفارقهم فالراحلون همُ
شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الإنسان ما يَصِمُ

وكيف يليق به في حضرة سيف الدولة أن يقول:


أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

لو كان شاعر بلاط لنسي صاحبه وممدوحه الأول، ولبحث عن ممدوح جديد، وإن كان قد مدح كافوراً فليس بتلك اللغة التي مدح بها سيف الدولة، وربما تتحمل الظروف وحدها ذلك بعدما ترك سيف الدولة والبلاط المملوء بالحساد والخونة والمرتزقة، ولم ينس سيف الدولة في حضرة كافور باختصار. فقط كان عاتباً عليه، وهو يعلم صدق أبي الطيب في افتخاره بنفسه لأنه كان على يمينه في حروبه ومعاركه وخير دليل وصفه للحدث الحمراء.
إن ذلك العتب لسيف الدولة الصاحب وليس الأمير جعله ينسى كل البروتوكولات والرجال والحرس والناس ليخاطبه قائلاً:


أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم

وإنّ ذلك الوفاء منعه من الإساءة إلى سيف الدولة في حين أساء إلى كافور بما لا يتوقعه أحد، بل إننا نلمسه يتذكره وهو في مصر عندما هجا كافوراً في داليته:


عيدٌ بأيّة حال عدت يا عيد
لما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهمُ
فليت دونك بيداً دونها بيدُ

فمن الأهل والوطن والنديم والكأس والسكن والأحبة غير سيف الدولة، وهذا يظهر جلياً في لاميته التي أهداها إليه فيما بعد:


كلما رحبت بنا الأرض قلنا
حَلَبٌ قَصْدنا وأنتَ السبيلُ
ليس إلاك يا عليّ همامٌ
سيفه دون عرضه مَسْلولُ

إن ذلك يؤكد العلاقة القوية، فلن يقول مثل قول المتنبي في حضرة سيف الدولة إلا شاعر رجل، ولن يقبل منه إلا ملك رجل.. فتلك المدائح بين قائلها وسامعها ملحمة من الرجولة، فحق لأبي الطيب أن يختم تلك الميمية:


يا منْ يعزّ علينا ألا نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ

يا أخا العرب كان سيف الدولة محقاً في مخاوفه من أمير اسمه المتنبي، إذ ملأ الدنيا وأشغل الناس وهو مجرد شاعر بلا سلطة، فكيف به وهو نقيض ذلك.
وهناك أمر أحب أن يلتفت إليه الزاعمون بأنه ميكافيلي وصولي يبحث عن مجد لا غير، فقل لي بربك كيف تقرأ قصيدته في فاتك المجنون صاحب الغيوم:


لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
لولا المشقة ساد الناس كلّهمُ
الجود يفقر والإقدامُ قتّال

ماذا كان يمدح؟ كان يمدح القيمة فقط، وهو يعلم ألا جائزة وراء ذلك.. ولقد صدق الرافعي حينما قال: (اسفنجة تشرب البحر، وشمعة تضيء الظهر، والشيخ طه حسين ينقد الشعر، ثلاثة مضحكة لعمري). ليرقد في عين التاريخ وهو يردد:


أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصمُ

والله من وراء القصد.
(*)الإمارات العربية المتحدة
abnthani@hotmail

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved