Tuesday 29th November,200512115العددالثلاثاء 27 ,شوال 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "محليــات"

إذا أردتم الوسطية فاسعوا لها سعيها..إذا أردتم الوسطية فاسعوا لها سعيها..
د. يوسف بن أحمد العثيمين

في ثلاث مناسبات مهمة، في ثلاثة أيام متتالية، كانت (الوسطية) محورها، والتسامح مبتدأها، والاعتدال خبرها.. كانت الأولى عندما تسلم المليك التقرير السنوي عن مسيرة مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني (29-9-1426هـ)، وتحدث - حفظه الله - عن ما يدعو له ديننا الحنيف من ضرورة الالتزام بفضيلة الوسطية والاعتدال.. والثانية (30-9-1426هـ) عندما (تلفز) وزير الثقافة والإعلام - بنفسه - كلمة القيادة بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك، وعدّد النِعم التي أسبغها المولى - عزّ وجل - علينا، ومنها نعمة أن جعلنا أمةً (وسطاً) لا إفراط فيها ولا تفريط.. لا غلو ولا تثريب.. وألمح إلى أن الحضارة الإسلامية ضربت في أوج انتشارها، مثلاً فريداً في التعايش والتفاعل ولقاء الثقافات، وأردف بأن رسالة المملكة رسالة محبة وتسامح، وتراحم مع النفس والذات.. وداخل المجتمع، ومع أشقائنا في الدين، ومع إخواننا في الإنسانية.. والثالثة (1-10- 1426هـ) عندما شنّف مسامعنا فضيلة الشيخ صالح بن حميد، الذي ألقى خطبتي العيد، من المسجد الحرام، بخطبة أحسبها (خطبة الخطب) بتوكيده على أن الخطاب والحوار والنقد الهادف والتعايش الواعي وتبادل الآراء بإيجابية سلوك حضاري وفعل راقٍ يسعى العقلاء إلى تقريره ونشره وبثه.. وأن حضارات الدنيا هي نتاج التفاعل الإيجابي مع القضايا والعلاقات الفردية والاجتماعية، وأن الحوار هو الوجه الحضاري المضيء في مقابل التعصب والانغلاق والاستبداد والإقصاء، وعليه تقوم قاعدة التواصل والاحترام الفكري المتبادل، وتبرز روح (التسامح) والقدرة على استيعاب أفكار الآخرين والتعامل معها.. وأكدّ فضيلته قائلاً: في هذه الأجواء (تتولد) الوسطية والعدل والبر والقسط، وتنشأ السجايا الطيبة بأبعادها الشرعية والثقافية والفكرية والاجتماعية مع كل الأطراف والأطياف، مهما اختلفت القناعات والثقافات.. وإن هذا كله من مكونات ديننا وحضارتنا وممارسة أنبياء الله ورسله جميعاً، ثم العقلاء والصالحين من أتباعهم.. وأشار إلى أن التعصّب والإقصاء والاستبداد لا يمكن أن يكون من متدين صحيح التدين، وأكد أن الأمة بحاجة إلى نزع الأشواك، وتصفية العقول والقلوب من الشوائب الفكرية والاجتماعية، وتطهير النفس وتحرير العقليات من الاستبعاد والاستبداد والإقصاء ونزع روح الاستعلاء الفكري والاجتماعي.. ثم ختم بالقول: إن باب الاجتهاد مفتوح وحق إبداء الرأي مبذول، ولا ينبغي أن يكون التفكير ضيقاً: فإما وجود وإما اجتثاث، وينبغي التواصي على قبول المخالف والتحاور معه، واحترام الآخر في الأسرة والمجتمع والمدرسة ووسائل الإعلام.
ثم - أخيراً - وفي الكويت، قبيل اجتماعات المجلس التنفيذي لوزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية (20-10-1426هـ)، أشار وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح آل الشيخ إلى أنه لا محيد عن ضرورة العمل الجاد في الدعوة إلى (الوسطية) والاعتدال والبعد عن الغلو والتطرف، وأن ذلك هو (الخيار الوحيد) لمواجهة التطرف والغلو الفكري.
هذا هو - دائماً - خطاب ساستنا، ورأي فضلاء أمتنا، وحديث علمائنا الأجلاء، ومقولة عقلاء مجتمعنا، وتنظير مستنيري الفكر في الساحة الثقافية لدينا.. بل إنه ما أن يحزبنا أمرٌ جلل مردّه فكر متطرف، أو فعل إرهابي، أو شطط سلوكي، أو انحراف عقدي، إلا ونذكّر - أنفسنا - والعالم من حولنا، وبصوت مسموع وواضح، بأننا - دولةً ومجتمعاً - ندين ب(الوسطية) معتقداً، وبالاعتدال مشاعرَ، وبالتوازن سلوكاً..
ولكن (المعضلة) أن هذا النداء يتوقف عند مستوى الخطاب العام دون أن يُترجم إلى عمل (مؤسسي) وإلى مؤسسات ذات جذور ممتدة في الفكر والثقافة والمجتمع ومؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية، بحيث تكون (الوسطية) عنوانها، و(التسامح) مضمونها، والقبول ب(الآخر) هدفها المعلن والصريح لها.
لعل ما نحتاجه للانطلاق - بدايةً - أن يُعهد للثقات من المتخصصين بلورة مشروع حضاري إسلامي تتبناه الحكومة السعودية؛ بحكم أنها قلب العالم الإسلامي النابض.. مشروع إسلامي وسطي.. في جيده الاعتدال، وفي أفقه التسامح، وفي رؤيته التعايش مع الآخر والعالم.. لعله يتحول، مع مرور الأيام، إلى منهج حياة وأسلوب عمل.. يبشر بنماذج فكرية تنطلق من أرضية إسلامية تحقق مبدأ الاستخلاف في الأرض وعمارة الكون.
إننا أحوج ما نكون، وفي هذه المرحلة، إلى مأسسة الوسطية في مجتمعنا عبر (مؤسسات) تنتج الوسطية وتنشرها وتعيد إنتاجها، وتحمي مؤيديها - بل وتكافئهم لحملهم لوائها، وتحمّلهم وجعها ومقاساة (عذاباتها) الشخصية والنفسية - وربما المادية - لمعتنقيها عند مقارعتهم للتيارات المتعصبة والمنغلقة والمُقصية التي سببت لنا، في عدة مفاصل تاريخية، إحراجاً سياسياً وفكرياً وأمنياً في الخارج والداخل.. ويزداد الأمر ضرورةً ونحن - الآن - في عصر الانفتاح والشفافية، وثورة تقارب المسافات، وتقدم تقانة الاتصالات والفضائيات، ولم يعد بإمكاننا التواري وراء ستار (خصوصية) انتقائية.. فالثمن بات غالياً على الدولة والمجتمع.
إن الروحية الوسطية التي ينبغي أن (نُمأسِس) لها هي روحية التسامح الإسلامي التي يُبشرّ بها ساساتنا وعلماؤنا ومفكرونا.. تلك الروحية المنفتحة على الآخر.. الروح المتسامية المتسامحة.. الروحية التي تستوعب المستجدات، وتتعامل بحضارية مع طوارئ العصر، وطوارق الواقع السياسي والاقتصادي العالمي.. روحية التكامل مع العالم التي لا تخاف من التفاعل معه؛ لثقتها بنفسها وبثوابتها وقدرتها على التأثير فيه بقدر ما تتأثر به.. روحية تنشد حياة أفضل للمجتمعات، وتنشد سلماً عالمياً بين الدول تتحقق من خلاله غاية (التعارف)، وليس التناحر والكراهية والإقصاء بين الشعوب والقبائل، كما أمرنا القرآن الكريم.
هذا المشروع الذي تتلبسه روح الوسطية لن يتأتى بالأمنيات بل ب(مأسسة) الوسطية والنفاذ إلى جذور المجتمع عبر المؤسسات القائمة.. ففي (الشأن التعليمي) نحتاج إلى مأسسة الوسطية عبر نقلة شاملة في التعليم والمناهج والحوافز وإعادة تأهيل المعلم، وفي (الشأن الإعلامي) بوسائله ورسائله ومحتواه البرامجي، وربما بإطلاق قنوات إذاعية أو تلفزيونية متخصصة فيها.. وفي (الشأن القضائي) حيث الحاجة للوسطية في الأحكام العدلية وتقنينها، والتناسب بين الحكم والجنحة، وفي (الشأن الثقافي) عبر تشجيع وتحفيز ودعم مؤسسات المجتمع المدني الثقافية التي تنتج وتنشر ثقافة الوسطية في المجتمع، وفي (الشأن الدعوي) حيث الحاجة إلى تأصيل الوسطية في منابر المساجد، ومخارج الفتوى، ومنافذ الدعوة، ونشر الكتاب والخطاب الدعوي الوسطي في مواقع الإنترنت والساحات، وعبر إصدار مجلات (وسطية) التوجه تلامس موضوعاتها قضايا المسلم البسيط في حياته اليومية، وتعزز قيمة الوسطية في سلوكه ومعتقده ومشاعره وتصرفاته.
لقد بدأنا بداية متفائلة عندما وُجدت مؤسسات رسمية وغير رسمية (مجلس الشورى - مركز الحوار) تؤصل أدب الخلاف، وتجذّر حق الاختلاف، وتعمّق مبدأ القبول بالآخر إنساناً ورأياً.. وهذه إشارات تدعو للتفاؤل.. إذا أردتم الوسطية فاسعوا لها سعيها.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved