Thursday 12th January,200612159العددالخميس 12 ,ذو الحجة 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

بعث (ثقافة التساؤل) من جديد!! بعث (ثقافة التساؤل) من جديد!!
د. زيد المحيميد (* )

أعتقد أن إسهامات الباحثين الفكرية طالما ظلت مفتوحة ومتفاعلة مع المعطيات الموضوعية الموجودة والتي نلمسها ونجد أثرها في المجتمع في إطار زمني محدد يسعى في النهاية إلى خلق عالم أفضل يتجنب أكبر قدر من السلبيات، وهنا نشير إلى تلك الإسهامات إنما تنبعث وتتبلور من خلال توليد الأسئلة الذكية التي قد تقود إلى إبداعات في الجوانب والإسهامات الفكرية والعلمية والحضارية، والتي توصلنا في النهاية إلى صناعة حل لمشكلة من المشاكل العلمية العويصة التي أثقلت كاهل العلماء لسنين عديدة، وهنا تكمن أهمية ثقافة المساءلة، أي أننا نؤكد على أهمية خلق الأسئلة وبثها في شرايين الفكر والبحث العلمي حتى ولو لم نطرح إجابات حاسمة لها، يقول الدكتور عبد الكريم بكار: لا ريب أن طرح الأسئلة فن كبير، وما يحتاجه من ثاقب النظر وواسع الخبرة لا يقل بحال عما يحتاجه تقديم الأجوبة والحلول.
وقبل أن نبحر في إيراد بعض النماذج لتطبيقات ناجحة في مسألة التساؤل من القرآن الكريم والسنة النبوية، من حقنا أن نتساءل أيضاً لماذا تبدو بعض أسئلة العلماء والمفكرين القدامى مستمرة ورائجة في إشعاعها وفعاليتها في فضائنا الفكري والمعرفي إلى يومنا هذا؟، أليس في هذا إشارة إلى ضعف إنتاجية المثقفين والمفكرين المعاصرين في مجال التساؤل الذكي!، ألا يوجد منهم من يحل ويفك الأزمة ويزيل الغمة عن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وماهية الأسباب التي تراكمت في جسد الأمة وجعل الكثير من أبنائها يندرجون تحت نطاق (ثقافة اللاتساؤل) التي تؤدي إلى ضمور في صناعة التساؤل، وذلك الضمور له مظاهر منها:
1- السلبية وعدم الفعالية في تطوير الأفكار.
2- ضعف الملاحظة تجاه الأشياء الجديدة.
3- سيطرة الموروثات والتقاليد الشعبية على مداخل التفكير لدى الناس (د. عبدالكريم بكار).
4- ضعف صناعة المصطلح والمفاهيم لدينا.
5- التشبع الأجوف من الحلول والمقترحات التي تبدو وكأنها نهضوية مع أنها تحجر العقل وتميت التساؤل.
6- نمطية الأبحاث العلمية العربية، ذلك لضعف الإبداع والتميز في مواضيعها ونتائجها.
7- جمود الاجتهاد في المجالات الفقهية والشرعية.
8- ضعف الإبداع في حركة التأليف في الكتاب العربي.
وفي نفس الاتجاه، يذكر الدكتور عبد الكريم بكار عدداً من الأسباب التي أدت إلى ضعف وانحدار في عملية التساؤل منها (بتصرف):
1- طريقة التعليم السائدة في المدارس تكرس ما تشيعه الثقافة الشعبية في تلقين أبنائنا الطلاب من أن المعلم يعرف كل شيء، وبعض المعلمين يمنع الطلاب من إلقاء أي سؤال، وكذلك كثرة مناهج الطلاب النظرية وعدم تعليمهم بما يناسب تطلعاتهم واهتماماتهم وقدراتهم، لها دور فعال في خلق (ثقافة اللاتساؤل).
2- انتشار القصص والحكايات العجيبة في المجتمع، وتتطور لتأخذ شكل الخرافة، ولتبني من ثم عقولاً خرافية، فتمحو في أذهان الناس الفروق بين الطبيعي وغير طبيعي، والجائز والممنوع، والقريب والبعيد.. ومن خلال زوال الفروق بين تلك الثنائيات تتهيأ أذهان الناس لقبول أي شيء والاستسلام للوضعية الراهنة بوصفها شيئاً لا بديل له.
3- اليأس والإحباط بسبب سوء الأحوال وتدهور مكانة الأمة بين الأمم الأخرى، مما يؤدي إلى الإحجام عن التساؤل حيث يفقد المحبط الحيوية الذهنية، كما يفقد روح الانفتاح والتفاعل التي كثيراً ما تتمظهر في التساؤل.
4- جفول الوعي الإسلامي في وقت مبكر من تاريخ هذه الأمة من (الفلسفة) بسبب تجاوز بعض فلاسفة المسلمين للعديد من الأصول والثوابت الشرعية، وقد أدى ذلك إلى ضعف في صناعة المفاهيم لدينا، وإصابتنا بقصور مريع في عدد كبير منها. وعلى هذا المنوال سأورد بعض النماذج من القرآن الكريم والسنة النبوية والتي تدل على الأسئلة الذكية، والتي أدت بسبب قوتها وجودتها إلى إحداث تأثير كبير، وإيرادنا لتلك النماذج إنما هو للعبرة واكتساب المنهج السديد في صناعة الأسئلة الذكية، مما جعل تلك النماذج تحظى باهتمام العلماء على مدى القرون ومنها:
1- ومن القرآن الكريم قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع قومه، حيث أوضح لهم المحجة وبين كثر جهلهم، وقلة عقلهم، وألجمهم الحجة، بواسطة توليد الأسئلة الذكية قال تعالى:
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ«70» قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ«71» قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ «72» أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ «73» قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}.
فلما كسر إبراهيم عليه السلام الأصنام قالوا: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ «62» قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}. وإنما أراد بسؤالهم هذا السؤال الذكي أن يبادروا إلي القول بأن هذه لا تنطق، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات.. {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ}.
2- من السنة النبوية المطهرة فقد كان الهادي محمد صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه، فقد روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن من الشجر شجرة، لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني ماهي، فقال عبدالله فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا حدثنا يا رسول الله، قال هي النخلة)، وفي الاتجاه المقابل عُرض على رسول الهدى مئات من الأسئلة في حياته عليه الصلاة والسلام، وتخرج من مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يحسن صناعة الأسئلة الذكية، ومثال على تلك الأسئلة التي رويت عن صحابة رسول الله ما ورد في صحيح الإمام البخاري من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم, قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: وهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرقة كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
وفي هذا السياق كل هذا يقودنا إلى أن نتساءل عن كيفية المحافظة على (ثقافة التساؤل) وإيضاح برنامج معين لتوليدها من جديد وأسباب الاهتمام بها، والابتعاد عن المسببات التي فتكت بعملية التساؤل في مجتمعنا الإسلامي، مما يؤدي إلى إثراء وابتعاث صناعة الأسئلة الذكية والأفكار الكبرى التي أدت إلى تميز ورقي الأمم على مدى التاريخ، ونتج عن ذلك حدوث تغيير على مسار القوى وبلورة صيغ جديدة للحياة بسبب تلك الأسئلة الذكية وتطبيقها، والصبر عليها إلى أن تنضج بطريقة تشجع صانعها على إظهارها للعيان، وتلك القضايا ستكون محل نقاشنا في مقال قادم. ونختتم حديثنا هذا بأهمية البحث والدعوة إلى الإبحار في أعماق (المحيط الأزرق) عن (ثقافة التساؤل)، التي يصعب إيجادها في المنظور القريب، ولكن مع العزم والصبر والبناء والوعي من أبناء هذه الأمة، يمكنهم أن يكونوا يداً واحده قوية ينبعث منهم لسان وقلم يستطيعان تعزيز مكانة العقل المتسائل، والنتيجة صناعة المجد والعز لأمتنا، وإعادة بعث (روح التساؤل) إلى حظيرتنا الإسلامية من جديد!!.

* عضو هيئة التدريس في الكلية التقنية في بريدة
zeidlolo@hotmail. Com

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved