قبل ستين عاماً لم يكن بوسع أحد في العالم ولو مجرد التفكير بأن شعب اليابان سيعود ذات يوم إلى ما كان عليه قبل إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتي (هيروشيما وناكازاكي) وإحالتهما إلى خراب ودمار.
قبل ستين عاماً لم يكن بوسع الأرقام إحصاء عدد الضحايا أو تقدير قيمة الخسائر، أو حساب كم من الأموال والأعوام التي ستحتاجها اليابان لإعادة البناء والإعمار؟ وكم من الزمن سيستغرقه اليابانيون حتى يتجاوزون الآثار النفسية التي خلّفها ذلك اليوم المأساوي في تاريخهم؟
لكن بعد مرور أقل من عقدين من الزمن اكتشف الجميع أن اليابانيين كانوا هم وحدهم من يعرفون الإجابة بعد أن عادوا -وبقوة- إلى الساحة الدولية ومسرح السياسة العالمية ليقولوا للعالم أجمع: (نحن هنا.. فالشعوب الأصيلة لا تموت بقنبلة، لأن رصيدها الحضاري كفيل ببعث وإعادة أمجادها من جديد) على حد تعبير أحد المفكرين اليابانيين... ويبدو أن الشعب الياباني كان مؤمناً - حتى النخاع - بتلك الفلسفة، لذلك حين عاد لالتقاط أنفاسه، وبناء قدراته العظيمة من جديد لم يفكر بالثأر لنفسه بتكنولوجيا الحرب المتطورة، بل إنه غزا الولايات المتحدة الأمريكية حضارياً بالتكنولوجيا المدنية التي نافست المنتجات المحلية ودخلت كل بيت أمريكي، ثم وصلت إلى كل بقعة في العالم لتؤكد إرادة الشعب الياباني، ومدى اعتزازه بخدمة الإنسانية وحبه للسلام.
لقد أسست اليابان مدرسة اقتصادية رائدة بعناوين مختلفة وأفكار متميزة أذهلت وأدهشت المتابع والمحرر والمحلل والناقد، بل والشاعر حتى غدت قوة اقتصادية رئيسية تؤثر في الساحة الدولية - دون أن تستجدي ذلك - وتفرض إرادتها على المجتمع الدولي متجاوزة (كل الحدود التي كانت تُرى - من قبل الغرب المتقدم - بأنها حدود يستحيل لغير الغربي تجاوزها، بل ووصلت حدودها إلى درجة التأسيس لمفاهيم وأساليب وطرق إنتاجية إبداعية وحديثة أخذ بها الغرب نفسه واستفاد منها في مسيرته الاقتصادية المتطورة.
أما الصين الشعبية - التي تُعد أكبر دولة سكاناً في العالم وأحد أكثر بلدان العالم عراقة في حضارتها - فقد حققت معدلات تنموية عالية وهائلة لم يصل إليها الغرب ولا الشرق ولا الجنوب ولا الشمال، واكتسحت منتجاتها وصناعاتها أسواق العالم وكبرى المتاجر العالمية بأنماط وأنواع إنتاجية متقدمة ومتفوقة كثيراً حتى على شركائها الاقتصاديين الغربيين وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بل استطاعت تحطيم العديد من الأرقام القياسية التي كانت في السابق حكراً على الدول الرأسمالية، فهي اليوم في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية في استخدام الإنترنت، حيث يبلغ عدد مستخدميه (100) مليون مستخدم، وهناك أكثر من (150) مليون صيني يدرسون الآن خارج وطنهم، وتصنع الصين كاميرا رقمية واحدة بين كل اثنتين يجري بيعهما في العالم، وتتمركز فيها (ثلث) الصناعات الإلكترونية العالمية، وهي أكبر منتج للشاي بعد الهند وثاني أكبر منتج للبرتقال بعد الولايات المتحدة، كما أنها أكبر منتج لمحطات الكهرباء في العالم كله حيث يجري - كل أسبوع - تدشين محطة جديدة، هذا بالإضافة إلى أنها الأولى في إنتاج الأحذية حيث تحتكر نصف الإنتاج العالمي الذي يقدر بحوالي (13) مليار زوج من الأحذية.
وتظل الهند.. نعم الهند اللغز المحير نظراً لما حققته من نجاحات اقتصادية مُبهرة في ظل أقصى تناقض (ديموغرافي) عرفه التاريخ الإنساني للتعدد العرقي والطائفي، فالهند اليوم تعد من أهم وأبرز دول العالم على الإطلاق، ليس لترسانتها العسكرية وحصولها على السلاح النووي، ولا لموقعها الجغرافي المهم بملكيتها معظم القارة الهندية وسيطرتها على خطوط الملاحة من بحر العرب والخليج إلى شرق آسيا عبر المحيط الهندي، ولكن - أيضاً - بالنظر لعمليات التنمية التي بدأت تخطوها في السنوات الأخيرة، وكذلك لقوتها الصناعية والتكنولوجية التي جعلتها في مصاف الدول العالمية الكبرى.
لقد قفز الهنود قفزات هائلة وسريعة أذهلت كل الذين تعرفوا على نهضة الهند في العقدين الماضيين، وكانت نهضتها شاملة لكل مناحي الحياة، حيث أصبحت المنتجات الزراعية مصدر دخل بالمليارات للدولة الهندية، بالإضافة إلى أنها من أكثر دول العالم تفوقاً وتميزاً في مجال الاتصالات والإلكترونيات (ابتكاراً وتصنيعاً).
وواقع الأمر.. فقد تجاوزت تلك القلاع الآسيوية الثلاث كل ما هو ممكن تجاوزه من الماضي رغم صعوبة ذلك التجاوز والعقبات التي اعترضت طريقه، وقدمت دروساً بالغة الأهمية للعالم المتقدم والمتخلف على حد سواء في العزم والتصميم والفهم والإرادة المتعطشة للعمل وهي - ولا شك - دروس جديرة بأن نعي كافة أبعادها المتعددة، وجديرة - أيضاً - بالتأمل والتمعن من قبل سائر الباحثين وصناع القرار في العالمين الرأسمالي المتطور والنامي معاً، وبخاصة حينما يرى المتابع والقارئ كيف وصلت معدلات الفقر والبطالة إلى أدنى مستوى ممكن، وفي بلد كان يمكن أن يشكل عدد سكانه الضخم - كما في الهند والصين - تبريراً كافياً ومنطقياً لكل عوامل الاخفاقات الاقتصادية والمعيشية فيما لو حدثت.
|