هذه لَقْطَةٌ تاريخية مهمة لأنها جرت في مرحلة هزيمة للأمة تشبه هذه المرحلة التي تعيشها أمتنا، ولأنها توضِّح لنا خطورة ما يقوم به المنهزمون من أبناء الأمة من توهين العزائم، وتثبيط الهمم هذه الأيام.
هذا لسان التاريخ يقول، كما نقل ذلك الأستاذ محمد الجانودي في كتاب القطوف النديَّة: ما إنْ أطلَّ عام سبعمائة للهجرة حتى أخذت الأخبار تتوالى بأن جيوش التتار تستعد للرجوع إلى بلاد الشام، وأنها ستقوم بهجوم عنيف، كعادتها في عنفها وقسوتها.
هنا اضطربت النفوس، وضاقت الصدور، وانتشرت الشائعات المرعبة التي كانت سبباً في موجاتٍ عنيفة من غلاء أجور النقل والأشياء الضرورية للناس كالطعام والشراب، وعمَّت الفوضى، وزاد الهَلَع حتى شرع الناس بالرحيل عن بيوتهم وقراهم.
هنا وقفت همَّة الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية - رحمه الله - صرحاً شامخاً، فتوجَّه بعد تفكير واستشارة إلى مصر ووصل إليها مع البريد سريعاً وخاطب سلطانها قائلاً: لو قدِّر أنكم لستم حكام الشام، ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامهُ وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم عند الله عزّ وجلّ، إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته فأخبرونا لنقيم له سلطاناً مستقلاً يحوطه ويحميه، ويستغلُّه في زمن الأمن، فلبَّى السلطان دعوة ابن تيمية، وأمر بتوجيه الجيوش والعساكر مباشرة إلى الشام، وعاد الشيخ إلى الشام بالبشارة فهدأ الناس وفرحوا وسكنت قلوبهم، وظلَّ يشحذ الهمم، وينهى عن توهين العزائم وتخويف الناس، وأخذ يقوِّي المعنويات دون أنْ يهوِّن من واقع الحال، ووجَّه إلى الناس كلمة جامعةً مانعة قال فيها: (إنَّ هذه الفتنة التي ابتلى الله بها المسلمين مع هذا العدد المفسد (جيش التتار)، الخارج عن شريعة الإسلام، قد جرى فيها شبيه ما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي التي أنزل الله فيها كتابه، وما نزل من آيات في ذلك يشمل جميع المؤمنين في جميع الأمكنة والأزمان, وينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله سبحانه وتعالى وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في هذه الحادثة العظيمة؛ حادثة التتار، التي طبَّق الخافقين خَبَرُهَا واستطار في جميع ديار الإسلام شررُها، وأَطْلَعَ فيها النفاقُ ناصيةَ رأسه، وكشَّر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أَنْ يُجْتثَّ ويُخْتَرم، وحبلُ الإيمان أن يَنقطع ويُصْطَلَم وكان عُقْرُ دار المؤمنين أنْ يحلَّ بها البَوار، وأنْ يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مَرَضٌ أنَّ ما وعدهم الله ورسوله إلا غروراً، وأنْ لن ينقلب حزبُ الله ورسولهِ إلى أهليهم أبدا، وزُيِّنَ ذلك في قلوب المنافقين وظنُّوا ظنَّ السوء وكانوا قوماً بورا، ونزلتْ فتنةٌ تركتْ الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وميَّز الله فيها أهل البصائر والإيقان، من الذين في قلوبهم مرضٌ أو نفاقٌ أو ضَعْفُ إيمان، حتى تحزَّب الناس إلى ثلاثة أحزاب:
1 - حزب مجتهد في نَصر الدين برغم قسوة المعتدين.
2 - حزب خذل الدين وخذل المسلمين وتعاون مع المعتدين الظالمين.
3 - حزب خرج عن شريعة الإسلام، وانهزمت روحه أمام قسوة الطغيان.
وأصبح الناس بين مأجور ومعذور، وآخر قد غرَّه بالله الغَرُور.
هذا جانب من هذه اللقطة التاريخية - أيها القارئ الكريم - يحسن بنا أن نتأمَّله لنرى مدى التشابه بينه وبين حالة كثير من المسلمين اليوم، فما أظنهم في مواجهة هذه الأزمات الطاحنة التي تمرُّ بها أمتنا المسلمة، وعالمنا العربي اليوم، يخرجون عن إطار تلك الأحزاب الثلاثة التي أشار إليها الإمام ابن تيمية رحمه الله.
(مجتهد، ومخذِّل، وخارج عن شريعة الإسلام).
لمن يكون النصر في النهاية، وكيف يكون الموقف الذي تبرأ به الذمَّة، ويقوم به الحقُّ؟
هذا ما ستجيب عنه اللقطة التاريخية الثانية من لقطات هذا الموقف العظيم في الجزء الثاني من رسالة ابن تيمية - رحمه الله - إلى المخذّلين، غداً - إن شاء الله - في هذه المساحة السعيدة باستضافة كل قارئ كريم.
إشارة:
يا قومُ، دين الله دين شاملٌ فعلام أبواب الحقيقة تُوصَدُ |
www.awfaz.com |