الحمد لله الذي جعل في تعاقب الأيام والليالي والشهور والأعوام عبرة وآية, وثنّى بذكر ذلك في القرآن آية بعد آية، فقال سبحانه في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(164)سورة البقرة.
وفي آخر آل عمران يقول سبحانه:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}.
وفي سورة يونس يقول سبحانه: {إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}.
وفي سياق الآيات الكونية في سورة النور يقول عز وجل: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}(44)سورة النور.
هذا كله منه عز وجل امتنان على عباده وتذكير لهم بآياته الدالة على وحدانيته في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فأقسم سبحانه بالعصر وببعض الأوقات كالفجر والضحى والليل والنهار في فواتح عدد من قصار المفصل من القرآن المكي كما أقسم بالقمر والليل وإدباره والصبح وإسفاره في قوله عز وجل من سورة المدثر: {كَلَّا وَالْقَمَرِوَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ}.
ويقول سبحانه: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}.
وله سبحانه أن يقسم بما شاء من مخلوقاته تنويها بها واهتماماً لها، وليس للمخلوق أن يقسم إلا بالله وأسمائه وصفاته.
ومن آياته سبحان استدلاله بانفراده بالعبودية وحده بمعجزاته وآياته الباهرة الدالة على وحدانيته فيقول سبحانه في فصلت في السجدة منها: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (37)سورة فصلت.
إننا معاشر الأحبة نتذكر ونعتبر في تسخيره سبحانه الليل والنهار لعباده ليحقق لهم خلافته في الأرض، ولتقوم به مصالحهم ومعايشهم فيعتلوا بذلك توحيده وحده والإسلام والاستسلام له وحده بإصلاح الدنيا بالإيمان به وحده وأداء حقه الذي أوجبه وفرضه عليهم بعبادته وحده لا شريك له.
فامتن سبحانه بذلك في قوله من سورة إبراهيم: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (33) سورة إبراهيم.
في سورة النحل بعدها يقول سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(12)سورة النحل.
كل هذا في التحقيق يدل ويؤكد على أصول مهمة وقواعد إيمانية راسخة وجليلة وأهمها أمران:
1) أولهما الاعتراف والإيقان بوحدانيته سبحانه في أفعاله المستلزمة والمحققة لوحدانيته سبحانه في إلاهيته وعبوديته وحده دونما شريك له فإذا تحقق هذا وحُقِّق.
2) فثانيهما جعل الإنسان: آدم وذريته في الأرض خلفاء ليعمروا دنياهم بالتوحيد فيكون في انقضاء الزمان بلياليه وآيامه وأعوامه، انقضاء أعمارهم وتحولهم إلى دار الجزاء والثواب.
فهو للمؤمن عبرة وأي عبرة على انقضاء مهلته ودنو أجله بتقدم العمر ونهايته وهو للمؤمن - لا الغافل - نذير وتنبيه ليفتح عقله وقلبه على حاله وماله فيحاسب نفسه ويؤاخذها فيما مضى من تفريط أو غفلة أو إعراض ويحملها في مستقبل أيامه على فعل الجميل ويأطرها على الحق أطراً.
أيها الأحبة إن في انقضاء الأعوام عبرة وذكرى على حقارة الدنيا وترك الأمل فيها.
أيها الأحبة إن في انقضاء الأعوام عبرة وذكرى على جلالة الآخرة وقدرها.
أيها الأحبة إن في انقضاء الأعوام عبرة وذكرى على الجنة والنار.
أيها الأحبة إن في انقضاء الأعوام عبرة وذكرى على الزهد والورع وملازمة التقى.
إننا معشر المسلمين ونحن نودع عاماً ونستقبل عاماً أخي لا بد أن نتذكر أشياء وأموراً معتبرة جداً:
1) فنتذكر ذلكم الحدث العظيم الذي غير وجه التاريخ، الذي أعز الله به الملة وأذل الكفر وأهله، نتذكر هجرة خليل الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة - بلد الكفر وأهله إلى عز الإسلام وأهله.
نتذكر الهجرة فنستفيد منها دروساً في ديننا وعقيدتنا وأعمالنا أهمها:
أ - أن الهجرة من بلد الشرك إلى بلد التوحيد، ومن بلد الكفر إلى الإسلام واجبة عيناً وباقية أبداً إلى قيام الساعة، كما جاء بذلك الخبر عنه صلى الله عليه وسلم ولقوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}(97)سورة النساء.
ب - إن الهجرة في كمالها وتمامها هي في الهجرة من الذنوب والمعاصي إلى التوبة والعمل الصالح، كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) هذا ولقد روى أحمد وأبو داوود بسند جيد عن ابن عوف وابن عمر ومعاوية رضى الله عنهم مرفوعاً أن الهجرة خصلتان إحداهما: أن تهجر السيئات والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل. أخرجه أحمد وغيره بسند حسن عن عبدالله بن السعدي رضي الله عنه مرفوعاً لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يُقاتل..
2) نتذكر وجوب العمل بالتاريخ الهجري المرتبط بعز الإسلام والمسلمين، والمرتبط بهجرة سيد البشر صلى الله عليه وسلم فلا نبغى عنه بديلاً وإن محبتنا الصادقة له صلى الله عليه وسلم ولدينه وتوجب وتحتم علينا الاعتزاز بذلك والعمل به ورفع الرأس بشرف هجرته.
كيف وهو عمل وتاريخ أصحابه الذين أمرنا بلزوم طريقهم واتباع سبيلهم ونهينا أشد النهي عن ضد ذلك من مخالفتهم واتباع غير هديهم، كما في قوله تعالى من سورة النساء: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء.
فلا يجوز والحالة هذه استبدال تاريخ المسلمين الهجري بالميلاد أو بالشمس أو بغيرها.
3) إننا يجب أن نعتبر ونتذكر من عاشوا معنا في عامنا الماضي ثم مضوا قبلنا من آبائنا وأمهاتنا وأحبائنا وأهم ذلك ما شمله عامنا المنصرم من قبض علماء وقادة وفضلاء بهم نجحت الأمة وحصلت الرزية فنقصت بهم الأرض من أطرافها ورفع بهم العلم وتناقص الخير والهدى فإلى الله المشتكى وبه المستعان: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(41)سورة الرعد.
4) إننا ننبه ونحذر من الاغترار بفعل الجاهلين أو المقلدين لغيرهم من كفار الغرب بإحداث احتفالات بدخول العام الهجري الجديد، أو إحداث أعياد لانعدام العام الماضي حيث الرزية والمصيبة في التشبه باليهود والنصارى ومشابهتهم في عقائدهم أو عباداتهم أو أخلاقهم وعاداتهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نسأل الله أن يعلي كلمته ويعز دينه وأولياءه، ويذل أعداءهما، وأن يعيدنا والمسلمين معاد الخير والعز والنصر والتمكين وأن يجبر كسرنا ويرحم ضعفنا ويهيئ لنا من أمرنا رشداً وأن يعفو عن تقصيرنا، ولا يؤاخذنا بما فعلنا، ويقابلنا به توبة ورحمة ورضا وقبولاً وأن يرحم موتانا ويرفع درجات علمائنا ويجمعنا بهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الفردوس الأعلى من الجنة واللهم صلي على محمد وأهله وسلم تسليما، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض |