الحمد لله وحده (كل شيء هالك إلا وجهه) والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. وبعد:
أجدني مضطراً لأن أبيِّن حقيقة وفاة والدي الشيخ سعد بن حمد المقرن - رحمه الله - بعد أن كثرت الأحزان عليه، وتساقطت العبرات من الجميع عليه.. فهل مات حقاً!؟ سبحان الله.
ها أنذا قد انتظرت بعض الوقت حتى استجمع ما استطعت من قواي، وألملم ما أمكن من شتاتي، وأبذل جهدي لأكتب أسطراً عن شيخي، أو أستاذي ومعلمي، أو قل: المربي الفاضل، والأب الرحوم والقدوة الصالحة، والذي - وُعِك رحمه الله - في يوم الاثنين 6-2- 1427هـ وعكاً شديداً. لقد كنت ملازماً له كحال سائر إخواني، فأخذت أقرأ عليه وأنفث وما زلت على هذه الحال حتى وكأنه هدأ قليلاً..، ولكن سرعان ما تناقص مؤشر الضغط ليخبرنا أن ضغطه ينخفض كثيراً.. فماذا أعمل يا الله.. اللهم ألهمني رشدي.
الوقت متأخر الآن - الساعة الحادية عشرة مساءً - إذاً أطلب من إخواني الحضور بعد أن طلبت الطبيب, سيحتاج إخواني لربع أو نصف ساعة حتى يأتوا إلى المستشفى، ولكن لي أخاً لم تلده أمي هو معنا هنا يتابع حالة ابنه المريض، شفاه الله ورفعه بالصحة والعافية.. إنه الأمير خالد بن طلال بن عبدالعزيز.. نعم.. لم أتأخر عن طلبه والجميل أنه لم يتأخر عن الحضور.. فما هي إلا دقائق حتى جاءني وكان معه ابن أخيه الأمير خالد بن الوليد بن طلال، سبحان الله، لقد آنساني في هذه اللحظات الحاسمة العصيبة ثم بدأ يقرأ على والدي وينفث، وما هي إلا دقائق ليأتي إخوتي.. الحمد لله كلنا هنا الآن.. لا تحزن يا والدي فها هنا أبناؤك يلتفون حولك والأطباء كلهم قد اجتمعوا محبة فيك ومتابعة لحالتك.. نعم إننا جميعاً بين يديك ومن حولك.. لا إله إلا الله.. كيف يستطيع قلم أو يمكن لبليغ أن يصف لكم هذه اللحظات.. ولكن!!.. {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.. سورة الواقعة.
نعم.. صدق الله ومن أصدق من الله قيلا.. ونحن أقرب إليه منكم.. ولكنا لم نكن لنشعر بذلك ولا نبصر ذلك.. لا إله إلا الله، لقد وقع الحق وجاء أمر الله.. {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}, إنه الموت يا أحبتي ما منه ملاذ ولا مهرب، متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب..
رحمك الله يا أبي، وغفر لك، وأدخلك فسيح جناته إنه ولي ذلك والقادر عليه، فلقد كنت لنا نعم الأب ونعم المربي، ونعم الصديق، ونعم المعلِّم، لقد عشت سنوات طويلة تبني مجداً خالداً، تتبع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وتجتهد في خدمة دينك وتبذل وسعك ونفسك في توحيد بلدك وكلمة أمتك، لقد كنت جندياً صادقاً في عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - حتى حصلت على ثقته، ثم طلبك الملك سعود - رحمه الله -، فكنت نعم المجيب فلم تتأخر ولم تتوانَ، وكان موقفك الصادق الصافي يحتم عليك السير قدماً مع الملك فيصل - رحمه الله -، فها أنت قد شاركت معهم في المعارك والمغازي، وها أنت ذا بذلت نفسك ومالك في سبيل دينك، فأخذت تقرئ القرآن لأهل بلدتك، ومن حولهم، وتعلمهم الفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والكتابة والإملاء.
ثم ها أنت تبذل مالك في سبيل الله.. ثم استقر الحال في عهد الملك خالد، فاعتزلت الدنيا وأقبلت على الآخرة، حتى كنت تختم القرآن مرات عديدة في شهر واحد، بل أذكر أنك قلت لنا وأنت في عافيتك: إنك ولأكثر من أربعين سنة تختم القرآن الكريم في رمضان فقط عشرين مرة، وأنك تصلي بالناس فتختمه بهم في رمضان مرتين، وما زال الكثير ممن قد صلى معك يذكر ذلك عنك, فلعل القرآن يكون شفيعاً لك، وأما صلاتك وأما صيامك.. وأما.. وأما، فالحمد لله على فضله وكرمه وهدايته لك.. الحمد لله، كما أسأله سبحانه أن يتقبلها منك, ولأن الوفاء يُقابَل بالوفاء ولأنك في بلد الوفاء.. فلا يُنْسَى لأهل الفضل فضلهم.. فلم ينسك.. قادة هذه البلاد.. غفر الله لميتهم ووفّق الله الأحياء منهم.
نعم، فلما اشتد مرضك.. ما كان من ولي أمر المسلمين خادم الحرمين الشريفين الملك فهد - رحمه الله - إلا أن أمر بعلاجك على وجه السرعة وبتوفير أعلى درجات الرعاية والعناية الطبية لك وقد حصل ذلك بفضل الله طيلة السنوات العشر الأخيرة.
واستمرت عناية الله بك ولطفه ورعايته لك حتى أصابتك الوعكة الأخيرة، فما كان من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - وفّقه الله وسدده - إلا أن يزورك أثناء زيارته للمستشفى ليطمئن عليكم وأنتم في العناية المركزة.. وأيضاً، فهذا صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز - وفقه الله - وهذا الأمير طلال بن عبدالعزيز، وكذا الأمير سلمان بن عبدالعزيز وأبناؤهم وإخوانهم كلهم قد قاموا بتقديم واجب الزيارة، فلم يقصّروا في أي شيء صغير فضلاً عن الكبير.. فلهم منا كل الشكر والتقدير والعرفان وليس هذا بجديد علينا منهم؛ فهم أهل لذلك.. فشكر الله لكم ووفَّقكم وجعلكم ذخراً لبلدنا وللإسلام وللمسلمين عامة.. آمين.
نعم يا والدي، رحمك الله ما دام أن ذلك كله قد حصل وهؤلاء كلهم قد وقفوا معك، بل وقف رجالات الدولة من وزراء وعلماء ومشايخ ومواطنين ليدل على حب الناس لك. ولعلك تكون ممن أحبه الله فحبَّب الناس فيه، كما جاء في الحديث (إن الله إذا أحب عبداً نادى في الملائكة أنه سبحانه أحبه، فيحبه الملائكة، ثم يوضع له القبول في الأرض ليحبه الناس).. الله أكبر ما أعظم ذلك.
لا إله إلا الله، ماذا عسانا أن نقول غير ما قاله نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا..).. وإنا لفراقك يا والدي لمحزونون.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللّهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً .. وما دام أن ذكرك عاطر فما زال شخصك بيننا موجوداً..
فلم تمت إذاً يا والدي.. يا رحمك الله.
القاضي بالمحكمة الجزئية للضمان والأنكحة بالرياض وخطيب جامع الشيخ محمد بن سلطان (رحمه الله) بشمال الرياض |