في باريس عاصمة الثقافة، أتيت لمتابعة برنامج اللغة الفرنسية والذي كنت قد بدأته منذ التحاقي بالجامعة في بريطانيا، حيث يرى البعض أن لغة القانون هي اللغة الفرنسية، فكان عليّ أن أسعى للحصول على أحد أهم مفاتيح لغة القانون. وبينما كنت أرتب أشيائي تلقيت اتصالاً من نبيلة تدعوني للعشاء فور علمها بقدومي قائلة: (لنلتقي غداً الساعة التاسعة في ساحة فيكتور هيجو ومن هناك سأصحبك إلى مكان حيث سنتناول طعام العشاء) وكنت وكانت هناك على الموعد.
نبيلة فتاة عربية الأصل فرنسية المولد والنشأة، إذا ما سألتها أنت فرنسية أو عربية؟ تجيب (أنا مزيج من الاثنين، وأحب الانتماء إلى كل مكان، من قرية آل خلف على قمم جبال السروات وأعماق أوروبا أحمل جينات الشرق والغرب). نبيلة جميلة بملامح شرقية، ومستنيرة بفكر حضاري، تتحدث الفرنسية، الإنجليزية، والإسبانية بطلاقة وتعمل جاهدة لتحسين لغتها العربية الناطقة بها لا تريد أن تفقد هويتها.
في ذلك المساء، أخذتني نبيلة إلى مطعم في حي الإليزيه في قلب باريس، جلسنا حول الطاولة وأخذت تحدثني عن أحلامها وطموحاتها ورغبتها الكبيرة في الالتحاق بإحدى الجامعات لدراسة العلوم السياسية. اتسع الحديث مع نبيلة فأخذت تحدثني في الدين، السياسة، الفن، والحب، كل شيء لديها مسموح الحديث فيه وأنا ما زلت تحكمني أقفال الماضي، وهي تحمل كل المفاتيح حتى لم يبق من باب إلا وفتح أمامها، وعبرنا معاً إلى تاريخ أوروبا والشرق حدثتني عن أمور كثيرة فكان الإنصات أحكم.
كان موعدي مع نبيلة أشبه بقراءة في موسوعات الدنيا، فهي منظومة من المعرفة والثقافة وكلما تطرقت لموضوع كان باستطاعتي أن أبدي وجهة نظري فيه، ليس فقط لأن اختلاف وجهات النظر مسموح به لديها بل لأنها ترى في الاختلاف غنى. إلى أن اتسع الحوار فأخذت تحدثني عن معارف أجهلها وبينما كانت في أوج القها تتباهى بما لديها من روايات التاريخ والعلوم، كنت قد شردت بذهني إلى أيام الدراسة محاولة استرجاع أياً مما تعلمناه لأرويه، حاولت أن أبحث عبر ذاكراتي عن أي شيء حفظته ولكن للأسف لم أجد أي شيء.
نصوص حفظناها دون أن نفقهها، الغريب أن ما كانت تتحدث عنه لم يقتصر على تاريخ أوروبا والحروب العالمية بل حدثتني عن تاريخ الشرق وحقبات من تاريخنا كان من الأولى أن تكون في مناهجنا وأن يكون لدي المقدرة على أن أضيف، وبدا من العار أن أجهل كل ذلك.
شعور بالحسرة على ضياع الوقت والجهد لأحصل على المرتبة الأولى في مراحل عمري الدراسية، فإذا بي أمام نبيلة بلا مرتبة، وكأني خارج التاريخ، وقد غيبت عن العالم. سأبقى في حسرتي وشأني، فلن تعود ساعات الليالي التي سهرتها، والأيام الضائعة من عمري. كم هو موجع ذلك الإحساس بالندم فهل أبكي على ما فات من عمري أم على أعمار الأجيال تذهب، تجف مياهها العذبة فلا يبقى للنبت والإبداع مكان.
فبينما كانت نبيلة ومن معها يسبحون في بحر من العلوم كنت ومن معي نسبح في بحر من المحظورات، عبرت نبيلة ومن معها إلى العولمة.. ونحن ما زلنا خلف الحاجز ننتظر العبور فمتى يرفع الحاجز ويسمح لنا بالعبور.
في سياق مقالتي هذه أذكر مقالة كتبها القدير عبدالرحمن الراشد في الشرق الأوسط يوم الأحد 16 إبريل يتساءل فيها عن السبب وراء منع تداول كثير من الكتب وطالب برفع الحظر حيث إنه بدا عقيماً في زمن الإنترنت الذي يمكن شراء أغلى الكتب إلكترونياً وختم الراشد قائلاً (افتحوا الباب لكل العناوين) وأنا أضم صوتي له وأقول ولتبدأوا بمناهجنا.
ختاماً.. من الأصالة ألا أنسى فضل نبيلة التي منحتني فرصة أطل من خلالها على إبداعات الحضارة الإنسانية. فعندما حاورت نبيلة التي لا تزيد عن السبعة عشر عاماً التمست فكراً يحرس الضمير ويذكرني بما لدى العالم من كنوز ومعارف وبحجم ما لدينا من جهل. فكر تعلمته نبيلة في مدارس الغرب ولم تعلمنا إياه مدارسنا. شكراً أيتها النبيلة أيقظتني من غفلتي وشكراً لذلك العشاء الرائع.
|