قد يبدو للبعض أن الحديث عن معنى القيادة في الساحة الفلسطينية، وفي هذه المرحلة بالذات محفوف بالأخطار والمنزلقات، لاسيما وأن المتربصين بالنضال الفلسطيني لا يتركون ثغرة إلا ويحاولون النفاذ منها للقضاء على المكاسب التي حققها ويحققها جهاد ونضال الشعب الفلسطيني ضد الهجمة الأمريكية والصهيونية العالمية عليه.
ولكن ذلك لا يعفينا من المحاولة الجادة الصادقة لتقييم القيادة الفلسطينية، ودفعها لتصحيح المؤسسات القائمة للقضاء على التشرذم وحالة الترهل التي أصابت هذه المؤسسات على مدار أكثر من عشر سنوات.!
فمن خلال ممارسات أجهزة السلطة منذ إنشائها على الأرض الفلسطينية في عام 1994م نرى أن جزءاً كبيراً من مظاهر هذا التشرذم يكمن في (الجانب التنظيمي) الذي لم يعط من العناية حقه، والذي ما زال يعكس نفسه على مختلف أجهزة ومؤسسات السلطة التي ستبقى تعاني من هذا التشرذم، وهذا التفتت والتبعثر ما لم يستكمل الجانب التنظيمي فيها.
وخير مثال على هذا التشرذم قضية السلك الدبلوماسي الفلسطيني والأزمة التي عرفت باسم (أزمة السفارات الفلسطينية)، ومن له الحق في تعيين واستبدال واعتماد السفراء، وتمثيل السلطة في المؤتمرات التي تعقد في الدول العربية والإسلامية.!
شاهد وسمع الفلسطينيون السجال الذي دار بين محمود عباس (ومعه ناصر القدوة وزير الخارجية الفلسطيني)، وفاروق القدومي أمين سر حركة فتح، واتهام كل منهم الآخر بأنه يحاول أن يأخذ من صلاحياته.
وقبله المناكفات التي دارت بين فاروق القدومي ونبيل شعث في وجود الرئيس ياسر عرفات - رحمه الله - حول نفس القضية..!!
وبعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، وتوليها الحكومة، وتعيين الدكتور محمود الزهار وزيراً للخارجية، استمرت مناكفات القدومي- كعادته - ولكن هذه المرة ليستكمل حالة الحصار على الحكومة الفلسطينية بمهاجمته للزهار واتهامه له بأنه قليل الخبرة، وأنه سيعلمه أصول العمل السياسي، بعد انسحاب الأخير من المؤتمر الوزاري لمنظمة دول عدم الانحياز الذي عقد في العاصمة الماليزية كوالالمبور في 29-5- 2006م..!!
ومع تأكيدنا بقلة خبرة الدكتور محمود الزهار في العمل السياسي، فهو قد أفنى معظم سنوات عمره في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي من اعتقال وإبعاد ونفي ومحاولات اغتيال طالته شخصياً واستشهاد ابنه خالد، ومع تأكيدنا على خبرة القدومي في العمل السياسي منذ أكثر من ثلاثين عاماً استطاع فيها الفلسطينيون تحقيق الكثير من الإنجازات العسكرية مع فشل سياسي رهيب كان يقوده القدومي (اجتياح لبنان عام 1982م خير مثال على ذلك) إلا أن القدومي يصر إصرارا عجيبا على أن يكون ممثلا للسياسة الفلسطينية الفاشلة.!
كنا نتمنى أن تكون غضبة فاروق القدومي حول حجم الفساد الذي ينخر في السلك الدبلوماسي الفلسطيني في الخارج، ووضع بعض المنافقين والانتهازيين والأفاقين و(عواجيز الفرح) و(كذابين الزفة)، الذين لا يملكون أي تاريخ نضالي أو سياسي في مناصب سفراء وممثلين لدولة فلسطين والسلطة الفلسطينية، والذين حولوا هذه السفارات إلى دكاكين سياسية.!
كما كنا نتمنى أن يخرج علينا القدومي ليحدثنا حول الوضعية المتردية للسفارات والممثليات الفلسطينية من حيث الترهل الإداري والتضخم الوظيفي، وما يصاحبه من عفن ومرض أدى بها إلى أن تكون عبئاً ثقيلا على جالياتنا، ومسيئة لسمعتنا، وسبباً لتنفير الناس من قضيتنا العادلة، وسبباً في السخرية من كيانيتنا السياسية، بل والسخرية حتى من زعاماتنا التاريخية.!
وذلك بفضل سفراء دولة فلسطين العتيدة الذين وضعهم- أو وافق عليهم- فاروق القدومي باعتباره رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية تحت شعار (استكبر الراس... واستتيس صاحبه).!!
هؤلاء (السفراء) الذين سمنت بطونهم، وانتفخت كروشهم وقروشهم من خلال ممارساتهم المستهجنة لشعب قدم الغالي والنفيس والتضحيات وقوافل الشهداء والجرحى والأسرى في سبيل قضيته.!
كنا نتمنى على القدومي أن يسأل سفراءه الميامين: ماذا فعلوا لقضيتهم في ظل الهجمة الصهيونية المتصاعدة على شعبنا، وفي ظل القتل المنظم اليومي والاغتيالات والاعتقالات وهدم البيوت والتجريف والحصار والتجويع والتدمير المنهجي لمقدرات الشعب الفلسطيني طوال خمس سنوات من عمر الانتفاضة.؟
لو بحث القدومي في هذا الأمر فسيجد أن هؤلاء السفراء قد تعبوا من الجلوس في مكاتبهم الفارهة فذهبوا للاستجمام والراحة في مصائف أوروبا، وفي منازلهم الفارهة التي اشتروها من دماء الشهداء في العواصم العربية.!
هل وصل إلى مسامع القدومي أن سفيرا فلسطينيا قد بنى منزلا في الضفة الغربية وقطاع غزة؟
هل سمع أن سفيرا فلسطينيا قد أنشأ مؤسسة أو مصنعاً لخدمة أبناء بلده في الضفة وغزة؟
الحقيقة المؤلمة أن سفراءنا الميامين قد بنوا عمارات في عمان ودمشق والقاهرة والرباط وبيروت بأسماء أبنائهم وزوجاتهم وأقاربهم للتهرب من القانون الذي لن يطبق عليهم في وجود مثل هذه السلطة (من أين لك هذا؟!).
والحقيقة المؤلمة الأخرى أن هؤلاء السفراء قد وضعوا أبناءهم في مناصب قيادية في السفارات والممثليات الفلسطينية من مبدأ (جحا أولى بلحم ثوره).!
قد نستثني من هؤلاء (السفراء) القليل منهم.! ولكن الحقيقة أن سفراء القدومي تلامذة نجباء لمدرسة هدفها استغلال أوضاع شعبنا الفلسطيني المناضل تحت يافطات إنسانية استيعابية مضللة في محاولة لتشويه أرقى وأشرف ظاهرة نضالية لشعب تحت الاحتلال.
عشرات الكوارث التي مرت بأبناء شعبنا في الخارج، ولم نسمع القدومي وسفراءه ينطقون بحرف واحد حيالها.!
آلاف العوائل الفلسطينية ساقتها الشرطة الليبية عام 1995م من بيوتها في الليل دون سابق إنذار، ولم تسمح لهم حتى بتدبير ما يمكن تدبيره من مدخراتهم، وقامت بترحيلهم إلى الحدود الليبية- المصرية تحت ذريعة أن الدافع القومي هو الذي أملى على ليبيا وقائدها وشعبها طرد الفلسطينيين تحت شعار (العودة إلى فلسطين)..!!
وعاشت هذه العائلات لسنوات في العراء، وفي ظروف حرجة للغاية، وتحت وطأة ظروف جوية رديئة، حتى وصل الأمر بإحدى السيدات الفلسطينيات أن تلد مولودها في إحدى السيارات العسكرية المحترقة في الصحراء منذ العالمية الثانية.!
لم نسمع القدومي يندد بهذه الحالة المأساوية، أو أن يرسل أحد سفرائه لزيارة هذه العائلات المنكوبة ل(جبر) خواطرهم، أو على الأقل ليبشرها بقرب العودة إلى الوطن.!
في العراق الشقيق هجرت عشرات العائلات الفلسطينية - تحت تهديد السلاح والقتل - من العراق، ومكثوا شهوراً وسنوات ينامون في الصحراء على الحدود الأردنية - العراقية، والحدود السورية - العراقية يواجهون كارثة إنسانية مع اقتراب نفاد الطعام والماء والأدوية، وخطر تفشي الجفاف والمرض.!
لم نسمع أن القدومي أو أحد سفرائه ذهب لزيارة هذه العائلات للاطمئنان عليها، بل كل ما نسمعه من هذا الرجل بأنه أحق من أي إنسان آخر بوزارة الخارجية الفلسطينية.!
كل ما سمعناه أن القدومي وجه دعوة للعصيان الدبلوماسي والتمرد شملت جميع سفراء فلسطين وممثليها في الخارج في سبتمبر الماضي لتجاهل القرارات التي صدرت بحق السفراء والسفارات من رام الله، وتحديداً من مكتب محمود عباس بعد إصدار الأخير قراراً أحال فيه 22 سفيراً مع قائم بالأعمال إلى التقاعد في إطار خطة علنية لتحديث الجهاز الدبلوماسي الفلسطيني.!
دعوة القدومي هذه جعلت بعض السفراء يرفضون تسليم ممتلكات سفارتهم إلى نوابهم أو إلى السفراء الذين حلوا مكانهم، وبعض السفراء ادعى أن الفيلات السكنية ومحتوياتها من ممتلكاتهم الشخصية.!
لقد استبشر الفلسطينيون في الشتات والمنافي خيراً بعد تسلم الدكتور محمود الزهار حقيبة وزارة الخارجية الفلسطينية، فمنذ اليوم الأول لتسلمه الخارجية أكد الزهار بأنه سيجعل من وزارته بوابة واسعة ومضيئة ونظيفة وشريفة ومهنية بالدرجة الأولى لكونها ستكون البوابة التي يطل منها العالم على الشعب الفلسطيني.
ولكن يأبى (ديناصورات فتح) الذين وقفوا في السابق، ويقفون هذه الأيام الآن ضد آمال وطموحات شعبهم، وعلى رأسهم فاروق القدومي أن تتحقق هذه الأمنية البسيطة للفلسطينيين.!
المطلوب اليوم من مؤسسة الرئاسة الفلسطينية أن تستجيب لنداء التصحيح، والقضاء على البعثرة والتشرذم في الساحة الفلسطينية، والنظر بعين مسؤولة إلى أبناء شعبها في الشتات والمنافي، وأن توقف كل التفاهات والممارسات اللامسؤولة التي تصدر من (ديناصورات فتح) الذين تربعوا على صدر الشعب الفلسطيني طوال عقود تحت ذريعة أنهم أصحاب خبرة، وليس في تحقيق ذلك اجتراح أي معجزة، فالإصلاح ليس مطلوباً فقط في الداخل، ولكن في كل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني الذي التزم بقضيته الوطنية، وبالعطاء والنضال من أجلها.
|