Thursday 8th June,200612306العددالخميس 12 ,جمادى الاولى 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"الرأي"

سيبقى عليكما الحزن ما بقي الدهر سيبقى عليكما الحزن ما بقي الدهر
فوزية الحامد / والدة المرحومة مشاعل المرشود

مضى عام وأتبعه العام الثاني على وفاة أغلى وأثمن كنز ملكته (أبي وابنتي الوحيدة)، ولا أعلم هل سيمكنني ربي من رثائهما السنوات المقبلة أم لا.
إن دوام الحال من المحال، فالليل يعقب النهار، والقمر يخلف الشمس، فمرة ننعم بالفرحة ومرة تعترينا الغمة والكربة، فالحياة متسعة الانحاء مترامية الأطراف، لكن الإنسان فيها مسير ينقاد لحتفه مساق لقضاء الله وقدره، فمن قضى الله به أمرا وامتحانا فإنه يجد الأرض على رحابتها أضيق من سم الخياط، كيف وأنا أفقد أعز اثنين في حياتي (الأب والبنت الوحيدة) ما أعظمها من مصيبة، لكن من نعم الله على الإنسان التي لا تعد ولا تحصى أن وهبه السلو والنسيان والصبر والاحتساب، وجعل للصبر ثوابا وأجرا كبيرا، ومن سنة الله في خلقه ما قاله في كتابه:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } ولو أني كتبت بقدر شوقي لامتلأت الصحائف والمداد، ولولا مداراة مع العين التي انطفأ بريقها من الدمع لانكشفت مني سرائر لم تظهر، لكن الأقدار تجري بنا في هذه الحياة، كما رسمها القادر، ونروض أنفسنا على قبول كل ما ينزل بها من خير أو شر، فما كان لنا فلن يخطئنا، فمرحبا بقضاء الله وقدره، لكن سأظل أذكرهما وأرثيهما ما دامت عروقي تنبض بالحياة فبموتكما أصبحت حبيسة الألم والذكريات وكثرة الغصة والعبرات، كلما أبصرت شريط الذكريات هيهات هيهات لأيام قد مضت.
أبي أنت الشمعة التي أضاءت لنا طريقنا نحو مستقبل أفضل، فبجهد منك عظيم ودعم من حنانك وعطفك وخوفك علينا ومتابعتنا وحثنا على التزود في طلب العلم والمعرفة جعلت لكل واحد منا ذا شأن وقيمة في هذه الحياة فأصبح منا: (المهندس، والصيدلي، والموظف، والمعلم) فأنت مجموعة من المشاعل التي تحترق في سبيل إضاءة تلك الطرق الطويلة الملتوية في حياتنا ثم لا تنطفئ. وعلمتنا حكمة نتمسك بها طول حياتنا إنها المواجهة ضد الصعاب ببذل الصبر والعزيمة والإصرار لبناء مستقبل أفضل وعلمتنا أن (الكتاب خير رفيق وأوفى صديق) فما زلنا نتذكر وصيتك لنا: بأن ننبذ الكسل وراء ظهورنا، ونجد في الشغل والعمل وأداء الطاعة على أكمل وجه، ونتزود بالتقوى، فإنها المساعد الأقوى إذ هي شعار الأبرار ودثار الأخبار، بها يتوسل كل قاصد إلى نجاح المقاصد، فما أعظمك من أب ففراقك صعب فلا تشرق شمس ولا تمر ساعة إلا وخيالك أمام أعيننا، فنسأل الله إنه أكرم مسؤول وأعظم مأمول أن يتغمد روحك الجنة، ويضاعف لك كل حسنة اكتسبتها. اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم منزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم آنسه في وحدته ووحشته وفي غربته، وأنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، اللهم املأ قبره بالرضاء والنور والفسحة والسرور، اللهم يمن كتابه ويسر حسابه وثبت على الصراط أقدامه.
ولعل من أشد الأمور إيلاما، ومن أكثرها حزنا أن يفقد المرء قطعة منه هي فلذة كبده، ولعل أهم صبر في هذه الحياة الصبر على فقد الابن أو البنت بالموت، فعجبي من هذا القدر الذي بمساره يحول من حال إلى حال، يرسم غير ما أحب ولا أرضى أو آمل، وأرجو فقد سلب مني ابنتي فجأة، وأنا ما زلت أتجرع حزن والدي الذي لم يمض عليه سوى بضعة أشهر، فأصبحت بعدها أسيرة في اتجاه آخر من الحياة، لا أملك سوى الدموع والألم الذي يعصر قلبي فأخذت أبحث عمن أجد عنده ما يريحني فهداني ربي للتضرع بالصبر.. فدعوته:


ولما دعوت للصبر بعدك والأسى
أجاب الأسى طوعاً ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه
سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر

** ابنتي مشاعل: شوقي إليك يا مقلة عيني وزهرة فؤادي رهين قلبي وقرين صدري لا يقوى عليه صبري، وحزني عليك استنفد عقلي، وملك جسدي وتركني حرضاً، وأوسعني مضضاً يزيد مع الأيام توقداً وتأججاً، خاصة وأنا في هذه الأيام التي استقبلت بها فرحة تخرج أخيك من الكلية لرأيت أمك تنزف دماً من الداخل ودموعاً من الخارج، لا تستطيع أن تشارك أخاك كامل فرحته، وكلما رأيت جميع المدعوين يتباشرون ويتباركون أثناء الوليمة تمنيت أن تنطوي الأرض التي أنا فوقها لتضمني معك إلى الأبد، لكن حياتي ليست ملكي وحدي أتصرف بها كيف أشاء:


خيالك في التباعد والتداني
وشخصك ليس يبرح عن خيالي
وشوقك في الجوارح مسكن
وذكرك لا يفارقه لساني

اكتب كلماتي هذه، وأنا بحال لو لم ينقصها الفرق والشوق إليك لسعدت بها. لكن ما بقي أن يصفو لي عيش من بعدي عنك، ويسوغ لي مطعم ومشرب مع انفرادي دونك، أنت جزء مني، وناظم لأنسي، وقد حرمت من رؤيتك وعدمت مشاهدتك حتى بالأحلام، لأن رؤياك بالحلم تشفي قلبي الغليل بلهيب الشوق والوله، وتطفي نيران الحزن المشعة بأرجاء جسدي:


نفسي على زفراتها محبوسة
ياليتها خرجت مع الزفرات
لا خير بعدك في الحياة وإنما
أبكي مخافة أن تطول حياتي

لقد طال زمن الفراق، وزاد الحنين مني والاشتياق، وما زلت أقطع الليل ساهرة أناشد القمر والنجوم لتحكي لك ما بداخلي من هموم حتى صارت ساعتي شهراً وليلي دهراً، وبالنهار أناشد نسيم الهواء العليل أن يمر على قبرك ويبلغك سلامي وأشواقي:


سلام على القبر الذي ضم أعظماً
تحوم المعالي نحوه فتسلم
تضمنت جسماً حياً وميتاً
فأنت بما ضمنت في الأرض معلم
فلو نطقت الأرض لقال ترابها
إلى قبر مشاعل حل

التكرم (عذراً للشاعر)
بنيتي.. لقد أخذك الموت القوي مني نعم؟ القوي إنه الموت الفجائي لقوة مصيبته دون مقدمة ولا حسبان، ليلة وفاتك كأن لديك إحساسا بزيارة القدر لك حيث قمت بضمي بقوة مصحوبة بابتسامة هادئة حزينة وياليتني أعلم أنها الضمة الأخيرة لما نمت ليلي....؟
أجل (إنها الليلة الأخيرة) فليلة وفاتها وعند مغادرتها للنوم ضمتني ضمة قوية وأخذت تحمد الله أني أنا والدتها، وسألتني عن مدى حبي لها فأخذنا نضحك على تعليق قلته، وودعتني بكلمة تصبحين على خير يا أمي، واستلقت بجسمها النحيل فوق فراشها ونثرت شعرها الطويل من حولها كأنه لؤلؤ منثور في حديقة غناء، واستسلمت للنوم.. وأي نوم؟ وأصبحت فلم أجد الخير الذي أنتظره، (آه) يارب تجبر مصيبتي بها لأنها ليست فقط الابنة بل الأخت والصديقة والحبيبة وكل شيء في أعماقي، فما زلت أسترجع شريط الذكريات فأبصرها منذ صغرها وحتى أصبحت شابة جميلة ذات العشرين عاماً، رحلت لتكمل بقية حياتها عند رفيق مقتدر في جنة عرضها السماوات والأرض. (اللهم اغفر لمشاعل وأبدلها بدار خيرا من دارها، واجعلها من الحور العين. اللهم صعد روحها وجاف الأرض عن جنبيها، ولقها منك رضوانا، وانظر إليها نظرة رضاء فإن من تنظر إليه نظرة رضاء لا تعذبه. اللهم إن مشاعل خرجت من روح الدنيا وسعتها ومحبوبيها وأحبائها إلى ظلمة القبر، وأصبحت فقيرة إلى رحمتك، اللهم انقلها من مواطن الدود وضيق اللحود إلى جنات الخلود (في صدر مخضود وطلع منضود وظل ممدود). اللهم إن مشاعل كانت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأنزلها منازل الصديقين والشهداء والصالحين. اللهم شفع فيها نبينا واحشرها تحت لوائه، واسقها من يده الشريفة شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبداً. اللهم أدخلها الجنة من غير مناقشة حساب، ولا سابقة عذاب. اللهم إن مشاعل كانت لك مصلية فثبتها على الصراط يوم تزل الأقدام، وكانت لك صائمة فأدخلها الجنة من باب الريان، وكانت لكتابك تالية فشفع فيها القرآن وارحمها من النيران، واجعلها تترقى في الجنة إلى آخر آية قرأتها، وآخر حرف تلته. اللهم ارزقها بكل حرف من القرآن حلاوة، وبكل كلمة كرامة، وبكل آية سعادة، وبكل سورة سلامة وبكل جزء جزاء) آمين يارب العالمين.
ومن منا إلا وله وقفات في محطاته، فهل اغتنمناها ولم نضع وقتنا هباء منثوراً، ونضع قول نبينا وقائدنا خاتم الأنبياء ينصب أمام أعيننا قال- صلى الله عليه وسلم-:(ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي منادٍ، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد فاغتنم مني، فإني لا أعود إلا يوم القيامة).
وكلنا سيمضي بنا العمر نحو محطاتنا الأخيرة، وما يدري المرء فينا متى تحين محطته، أسأل الله أن يجعلنا من خير من سمع فوعى، وغفر الله لي ولكم ولوالدي وابنتي وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين آمين يارب العالمين.
***
هذه مشاركة من ابنة أخي (هياء أحمد)، وذلك لحبها الشديد لابنتي وتعلقها بها.
سامحيني يا مقلة العين سامحيني
انظر إلى الآمال كيف تفوت وإلى الأنفس كيف تموت. أمر الله المتصرف في ملكه القاهر فوق عباده الذي يجبر بلطفه ورحمته ما جرح بقضائه وقدره، فقد استخار ابنة عمتي القريبة لنفسي لما تتمتع به من صفات عظيمة وأخلاق عالية من: حب وتسامح ورأفة وكرم شديد ومساعدة للجميع، فكانت- رحمها الله- قريبة من الصغير والكبير تعطي كل ذي حق حقه محببة من الجميع فكل شخص عرفها وشاهدها وجلس معها إلا وله وقفات طيبة معها، وذكريات جميلة ليتها تعود.
يا مشاعل: من اسمك يدل على غلاك فقد(شلعت) عروق قلبي بمحبتي لك فسامحيني يا كحيلة العين، سامحيني إذا قصرت في حقك بعد وفاتك من دعاء لك في أي مناسبة، وفي كل ركعة، وفي كل سجدة، فقد عاهدت نفسي طول حياتي أن أذكرك حبيبتي، كم أنا مشتاقة لك ومشتاقة لضمك إلى صدري وإلى سماع حكاياتك ورنين ضحكتك الممزوجة بالأدب والهدوء، منذ وفاتك يا الغالية أظلمت الدنيا في عيني. آه من هذه الدنيا كلها إلى الشتات وكل حي فيها إلى الممات، فسامحيني يا بعد عمري سامحيني وعهداً على نفسي يشهدها رب المخاليق ما تمر سجدة بصلاتي إلا وأنا أدعو بها لك بأن الله يرحمك ويغفر لك مغفرة واسعة، ويصبر أماً جابتك.
محبتك إلى الأبد ابنة عمتك:
هياء الحامد
وفي نهاية مقالتي أرجو من الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأشكر (نوف الشمري) جزيل الشكر والامتنان لتواصلها الدائم معي التي أعتبرها بمثابة ابنتي أقر بها أعين والديها وكلل دربها بالنجاح.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved