أود بدءاً أن أمهد لهذا الحديث بالقول إن بيني وبين الصديق الدكتور يوسف بن أحمد العثيمين، المفكر والكاتب المعروف، (صلة قربى) أدبية يباركها الفكر والقلم، وبالرغم من مسؤولياته الرسمية، إلاّ أنه يخرج للناس بين الحين والآخر نبضات من ذهنه المتدفق بحب هذا الوطن والغيرة عليه، والطموح من أجله، وكثيراً ما يطوّقني فضلاً منه بإهدائي نماذج من (أنفاسه) الوطنية تجسدها (مقامات) فكرية جميلة تتحدث عن بعض شؤون وشجون هذه البلاد، أمنياً واجتماعياً وتربوياً، وكلما قرأت واحدة من تلك (المقامات)، تمنيتُ مخلصاً لو كنتُ كاتبَها!
* * *
* غير أنني في الوقت نفسه أسلّم بأن ل(أبي أحمد) باعاً طويلاً من المعرفة وعمقِ الرؤية يمكنّناه من طرح تلك الموضوعات، عرضاً وتحليلاً واستنتاجاً، وهناك (ميزة إضافية) لدى الدكتور يوسف العثيمين، تتمثّل في موهبة (الفضول الأكاديمي) العنيد الذي لا تتوقف (قراءتُه) للظواهر الاجتماعية وما في حكمها خارجَ أسوار النصّ المكتوب أو المسموع، بل يتوغّل في بحثها محاولاً اختراقَ تلك الأسوار، ليسْبر غورَ هذه الظاهرة أو تلك، ويسْتَقرئي ما خَفيَ منها وما اسْتَتَر، أملاً في فهمها فهْماً يُظْهر حقيقتَها، و(يظهُر) هو بها على شبهة التأويل! وهو إلى جانب ذلك يملك أداةَ الأديب المتمكِّن الذي يطوِّع الكلمةَ وصولاً إلى ما يريد!
* * *
* هنا أودُّ أن أوردَ مثالاً لما تحدّثتْ عنه السطورُ السابقةُ، فالدكتور العثيمين (مشغولٌ) عقلاً وقلماً بظاهرة الإرهاب، عَرَضاً ومَرَضاً وأساليبَ علاج، وقد أعد لهذا الغرض دراسةً قيّمة تقع في نحو (142) صفحة بعنوان (نحو إستراتيجية وطنية شاملة لمكافحة الإرهاب في المملكة العربية السعودية) تتّكئ على (فكرة مركزية واحدة) كما وصفها في رسالته الموجهة لي، حيث قال: (.. إن الأمن السعودي قاد وبنجاح باهر حملةَ دحرِ الإرهابيين، وإفشالِ مخططاتهم.. وهذه حقيقة لا تقبل الجدل.. ولكن ما يقبل الجدلَ هو فاعليةُ الحلّ الأمني على المدى البعيد).
* ثم يورد في موقع آخر من رسالته تفصيلاً لفكرته المشار إليها فيقول:
(.. تزعم هذه الدراسة أن (الحل الأمني) يقضي على العَرَض وليس المَرَض.. وأننا إذا ما أردنا علاج (فيروس) الإرهاب الذي غزا مجتمعنا، فعلينا اجتثاثُ جذوره وتجفيفُ منابعه، والقضاءُ على عوامل (تخلُّقِهِ) ونموّه واستمراره، وفكُّ حالة الانغلاق الفكري والاجتماعي التي تقود إلى التطرف والغلو.. ومن ثمّ الإرهاب..).
* * *
* ويمضي الدكتور العثيمين واصفاً العلاجَ لهذا المرض الخطير، إذ يقول: (.. هذا لن يتّأتّى إلاّ ب(إستراتيجية وطنية شاملة) تقود إلى (إضعاف جاذبية) الإرهاب فكراً وممارسةً وتعاطفاً في عقول (الإرهابيين) من الشباب وفي نفوس (المتعاطفين) معهم من بسطاء المجتمع..)!
* * *
* ويبسط بعد ذلك القول محذّراً بأن الخطر الحقيقيّ الذي يهدّد هذه الأمةَ ليس الإرهابيين وحدَهم، فذاك أمر مقدُور عليه بفضل من الله، ثم ببسَالة رجال الأمن، إنما يكْمن في وجود شرائحَ من (المتعاطفين) فكراً وتمويلاً وتواطؤاً وتسهيلاً!
* * *
* وقد علقت على رسالة ودراسة الدكتور يوسف العثيمين سالفتي الذكر، بردّ طويل اقتطف منه ما يلي:
* (.. كلّنا نسلّم معكم إنه رغم بسالة رجال الأمن في بلادنا لمواجهة هذا البلاء والابتلاء مع طاغوت الإرهاب، ومحاولة اقتلاع أنيابه بل وتكسير عظامه إنقاذاً للبلاد والعباد من رجسه، إلاّ أنّ المواجهةَ وحدها، مهما نَمتْ وسَمتْ جسارةً وبذلاً ونتائجَ، لا تفي وحدَها بالغاية، وأرى، كما ترون، أنّ أخطر ما في الإرهاب نفسه هو من (يقف) معه بالمال تأييداً وأزراً، أو الدعم المعنوي استلاباً وتعاطفاً، أو اللاّمبَالاة، استسْلاماً أو تجاهلاً، وكأنّ القضية أمر عارض لا يعنيه أو أزمة لا خلاص منها..)!
ثم أواصل قائلاً:
* (.. نحن في حاجة ملحّة جداً وعاجلة جداً لإخضاع (ظاهرة الإرهاب) لمشرط (التشخيص) والتحليل الاستقصائي، وصولاً إلى (الجرثومة) التي تفرز الظاهرة و(الطفيليات) التي تغذيها، و(الحضانات) التي تُوؤيها، ثم نسنّ منا يجب فعله للوقاية منها، في الأجليْن القريب والبعيد، ولنبتعد ما استطعنا عن ممارسة التحليل والتأويل العشوائي الذي نسمع له (جعجعةً) في بعض دوائر الفكر ومجالس المجتمع، مرةً تُحَمّلُ مناهجَ التعليم الوزرَ كلّه، وأخرى تسند اللوم إلى ما (يعبر الحدود) إلينا من قريب أو بعيد من إيحاءات أو إيماءات أو تأويلات، فكرية كانت أو تحريضية أو إقصائية..).
* * *
وأختم الرسالة بوقفتين:
* الأولى: إن المشكلةَ في حجمها وبلائها، أكبر من أن يعبّر عنها تفسير أو تأويلٌ واحد، وهي تتطلّب بلا ريب كثافة في الفكر (وتكثيفاً) للجهود لمواجهتها والظهور عليها بإذن الله.
* * *
* الثانية: أن بلادنا مثل هذا الكون، باتت (قرية صغيرة) تتأثّر بمَنْ وما حولها من مجتمعات العالم، القريب منها والبعيد، شاءتْ ذلك أم أبتْه، لم تعد تسيّرها (فطرة الأمس) المنطلقة من البساطة والعفوية والنقاء، وهي لا جَرَم (مستهدفةٌ) من أكثر من صوب، مرةً طلباً (للتسيّد) والنفوذ، وأخرى لمجرد خلق حالة من التوتّر يهتزُّ في ضوئه ميزانُ الرقيّ الذي نشْهده، أملاً في تبعثُر الأوراق واستنفار النفوس بالشك أو التشكيك في ثوابتنا قبل أنفسنا، والعياذ بالله!
ووقى الله أمَّتنا وبلادَنا كيدَ الكائدين!
|