إنما يجرُّ على الإنسان متاعب كثيرة في حياته استسلامه لمراد نفسه الأمَّارة بالسوء، التي تميل إلى الطمع، وتجنح إلى الجشع، ولا ترضى بالقليل؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يصبح أسير مطامعه ورغبات نفسه، فلا يرى إلا ما فيه تحقيق لتلك المطامع والرغبات وإن كان في ذلك من الظلم لغيره والإجحاف بحقوق سواه ما فيه.
إنَّ الناس الذين يذهب بهم مُراد نفوسهم الأمَّارة كلَّ مذهب يظلُّون في قلق دائم، وأرق مستمر؛ لأنهم يعيشون حالات التربُّص لنيل ما يريدون مهما كانت الوسائل التي يستخدمونها.. هذه الحالة (المَرَضيَّة) تشغل الإنسان بغير المهم عن المهم، وبالتافه من الأمور عن الجليل منها، وتُوقعه من براثن مطالب الحياة الدنيا الرَّخيصة - مهما غلت - فينشغل بها عن مطالب الآخرة الغالية التي لا يتحقق الربح الحقيقي إلاَّ بها.
كم من إنسان مستسلم لمراد نفسه لا يعرف النوم، ولا يستطيع أن يعيش لحظة خشوع في صلاته، ولا لحظة انشراح في تلاوة آية، ولا لحظة صفاء في تسبيح وذكر ودعاء.
قال لي أحدهم: والله لقد أصبحت كثير الأرق، قليل النوم، مقصراً في واجباتي الخاصة والعامة مع أهلي. قلت له - وأنا أعرف حاله -: أتدري لماذا؟ لأنك ما زلت تنظر إلى الحياة وما فيها من المادة والمظاهر بمنظار الطمع، ولهذا دار بك دولابها فصرفك عن لذَّة العبادة والطاعة، ومتعة هدوء النفس وراحة البال فوصلتَ إلى ما وصَلتَ إليه من الحالة التي تشكو منها. هنالك مظاهر رخيصة في الحياة لا تستحق أن يضيع وقت الإنسان العاقل وجهده من أجلها، وإنما ينخدع بها من فتح منافذ قلبه للدنيا وحبِّها فأصبحت تلك المظاهر الرخيصة غاليةً عنده يبذل في سبيلها راحة قلبه، وهدوء نفسه، ويهدر من أجلها حقوق الناس من حوله.
إنَّ السعي في مناكب الدنيا أمرٌ مشروع، ولكنَّه وسيلة من وسائل العيش في هذه الحياة الدنيا، وليس غايةً وهدفاً، ومتى ما أصبح مراد النفوس، وهواها ورغباتها متصادماً مع حقيقة وجود الإنسان في هذه الحياة، ومع الغاية الكبرى من هذا الوجود ألا وهو عبادة الله سبحانه وتعالى عبادةً خالصةً يتحقق بها العدل والإنصاف، والرِّضا بقضاء الله، وشكره على ما تيسَّر من رزقه الذي يكتبه لعباده، أقول: متى ما أصبح ذلك المراد النفسي متصادماً مع غاية وجود الإنسان أصبح سبباً في شقائه وقلقه وأرقه، وعاملاً من عوامل خسارته في الدنيا والآخرة.
إنَّ الإنسان العاقل المؤمن بالله هو الذي يعطي كل شيء قيمته الحقيقية، دون إفراط ولا تفريط.
ومن سلبيات الانقياد لمراد النفوس ومطامعها إساءة الظنِّ بالنَّاس والحقد على مَنْ لا تتحقق عن طريقه تلك المطامع، وفي هذا من الشقاء، والعَنَتِ والمشقَّة ما لا يمكن أن تتحقق معه الراحة التي يتوق الإنسان إليها، ولا السعادة التي ينشدها.. وصدق القائل:
يدوم لنا إخلاصُنا ويقينُنا وما دونَه في هذه الأرضِ ذاهبُ |
إشارة
ومُراد النفوس أَهوَنُ من أنْ نَتَعادى فيه وأنْ نَتَفانى |
www.awfaz.com |