Friday 7th July,200612335العددالجمعة 11 ,جمادى الثانية 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

نوازع نوازع
اقتصاد أبي العتاهية وإنفاق طرفة
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم العنزي المعروف بأبي العتاهية الشاعر المشهور غلب على شعره الزهد في الدنيا والتحذير من الانغماس في ملاذها بالرغم من أنه عاش في عصر ازدهرت فيه أوجه الترف ورغد العيش وقد يكون مرد ذلك إلى سيرته الذاتية وما أحاطها من مؤثرات وأثر ما حوله في سلوك مذهب اختاره بنفسه ليعكس أثر الصفات الوراثية في نمط حياته.
وما يهمنا في هذه العجالة ما حوته بعض أبياته من معانٍ قد ترسم لنا صورة لمذهب اقتصادي يجعلنا أكثر تعقلاً لو أمعنا في الخيال لتصور مجتمع استأنس بما طرحه أبوالعتاهية من فكر اقتصادي فأراد وضعه موضع التنفيذ فيقول في إحدى قصائده:


أيها الباني قصوراً طوالا
أين تبغي هل تريد السحابا
إنما أتت بوادي المنايا
إن رماك الموت فيه أصابا
أيها الباني لهرم الليالي
ابنِ ما شئت ستلقى خرابا

وما أحسب أبا العتاهية في أبياته السابقة إلا قد حدد نهجاً اقتصادياً متمثلاً في الحد من الإنفاق في غير حاجة وليس لنا إلا أن نقف برهة لنحدد الحاجة التي يكون بعدها الإنفاق في غير حاجة وليس لنا إلا أن نقف برهة لنحدد الحاجة التي يكون بعدها الإنفاق قد تعدى ما عناه أبو العتاهية وإن كان ذلك قاصراً على المأكل والمشرب في بعض الأمصار فقد يتعدى ذلك إلى تشييد القصور في عصر ومكان آخر وحاجة الإنسان الفعلية لن تصل إلى مَنْ يكون قصره مِن المرمر ومساحته تربو على ألف متر كل فرد من أفراد عائلته وحاشيته وغرفة نومه تفوق 100 متر فذلك تعدى الحاجة إلى الإسراف وهو ما عناه أبو العتاهية في أبياته.
ولعل أبا العتاهية قد حدد للفرد درجة من الإنفاق لا يسمح بتجاوزها وعلى المرء إنفاق ما فاض عن حاجته في أوجه أخرى جسدها في قوله:


وإذا اتسعت برزق ربك فاجعلن
منه الأجل لأوجه الصدقات
في الأقربين وفي الأباعد تارة
إن الزكاة قرينة الصلوات
وارع الجوار لأهله متبرعاً
بقضاء ما طلبوا من الحاجات
واخفض جناحك إن رزقت تسلطا
وارغب بنفسك عن ردى اللذات

لذا فنظرية أبي العتاهية في الإنفاق تتلخص في إنفاق جزء من المال على متطلبات الحياة الضرورية وإنفاق ما زاد على ذلك في أوجه حددها بالصدقات على الأقرباء والأباعد والجيران وغيرهم
وقال في قصيدة أخرى:


إذا المرء لم يعتق من المال رقه
تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما ما لي الذي أنا منفق
وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي
يحق وإلا استهلكته هوالكه

فهو بهذا يأمر بإنفاق المال على مستحقيه الذين حددهم في قصيدته السابقة وهذا نهي عن كنز المال وتراكمه لدى نفر محدد كما كان سائداً خلال فترة الإقطاع في أوروبا.
ولا شك أن نهجاً كهذا سيجعل المرء أقل اندفاعاً للحرص على الدنيا وهذا يدعونا إلى إلقاء الضوء على ما طرحه أبو العتاهية من أفكار تتعلق بالإنتاج وسبل الرزق فقال في ذلك:


من أراد الغنى فلا يسأل الناس
فإن السؤال ذل ولوم
إن في الصبر والقنوع غنى الدهر
وحرص الحريص فقر مقيم
إنما الناس كالبهائم في الرزق
سواء جهولهم والعليم
ليس حزم الغني يجر له الرزق
ولا عاجزاً بعد العديم

فهو بذلك ينهى عن الاتكالية في طلب الرزق والاعتماد على الآخرين في توفير ضروريات الحياة التي يراها أبو العتاهية أنها الحد الذي يجب على ابن آدم أن ينفقه بينما ما فاض عن ذلك في الأوجه التي حددها وقال في قصيدة أخرى:


ليس الحريص بزائد في رزقه
الله يقسمه له ويسببه

وهو نهي عن الحرص الزائد في طلب الدنيا فليس المرء بحاصل على أكثر مما قسم الله له وقد يخطر على بال المرء للوهلة الأولى أن أبا العتاهية صرف ما فاض عن الحاجة إلى مستحقيها فهو بذلك قد وضع حداً للعمل وقلل من كفاءة العامل الإنتاجية وإن كان ذلك هو ظاهر شعره ونهجه إلا أن حثه على التصدق بالفائض وقضاء حاجة المحتاج تجعلنا ندرك أن القدرة على قضاء حاجة محتاج أو التصدق بالفائض لن تتأتى دون كد وتعب يكون المرء معه قادراً على المساهمة في مساعدة مَنْ يحتاج إليها وكأني به قد جسد ذلك في قصيدته التالية:


ما أنا إلا لمن بغاني
أرى خليلي كما يراني
من الذي يرتجي الأقاصي
إن لم تنل خيره الأداني
لست أرى ما ملكت طرفي
مكان من لا يرى مكاني
أصبحت عمن بها غنياً
بخالقي في جميع شأني
ولي إلى أن أموت رزق
لو جهد الخلق له ما عداني
لا ترتج الخير عند من
وعن فلان وعن علان
ولا تدع مكسباً حلالاً
تكون منه على بيان
فالمال من حله قوام
للعرض والوجه واللسان
والفقر ذل عليه باب
مفتاحه العجز والتواني
ورزق ربي له وجوه
هن من الله ضمان
سبحان من لم يزل عليا
ليس له في العلو ثان
قضى على خلقه المنايا
فكل حي سواه فان
يا رب لم نبك من زمان
إلا بكينا على زمان

فهو بهذا يحث على الغنى وطلب الرزق ولكنه يرفض السماح بالاستمتاع بالمال للفرد دون المجتمع ويبرر مطلبه للغنى بكونه صون العرض وماء الوجه واللسان والحاجة إلى فلان غير أنه استدرك ذلك بشرط كون الغنى حلالاً لا شيء فيه حتى يطيب مأكله وتحل صدقته ولا أحسبه محقاً في بيته العاشر حيث يصف الفقر بأنه ذل عليه باب، بل هو قدر للمرء أراده الله ولله في ذلك حكمة فليس للمرء إلا أن يوقن ويؤمن بقضاء الله وقدره وقد يتضح هذا المعنى في بيته الخامس حيث يقنع بأن له رزقاً محدداً لا يمكن أن يعدوه أحد وإن جهد الخلق في ذلك.
وخلاصة القول إن أبا العتاهية في نهجه الاقتصادي قد حث على القناعة ونهى عن الحرص على الدنيا وارتأى للمرء حداً لا بد بعده أن ينفق ما في يده على المستحقين وفي أوجه الخير المختلفة.
هذا هو أبو العتاهية وعلى النقيض منه عاش أحد الشعراء الجاهليين وهو الشاعر المشهور والغلام القتيل طرفة بن العبد.
وقد نشأ طرفة يتيماً فانصرف إلى اللهو ومعاقرة الخمرة ومعاشرة النساء، فأنفق ماله في غير سبيله مما حدا بعشيرته أن تبعده وتنفيه كأنه بعير أجرب وكان تياهاً معجباً بنفسه وبشبابه وقد سنحت له فرصة حيث دعاه عمرو بن مرثد وهو من أبناء أعمامه فقال له يا بن أخي أما الولد فالله يعينك وأما المال فسنجعلك فيه أسوتنا ثم دعا ولده وكانوا سبعة فأمر كل واحد منهم فدفع إلى طرفة عشرة من الإبل ثم أمر ثلاثة من بني بيته فدفعوا إليه مثل ذلك فظل ينفق مما بيده حتى نفد كل ما عنده في فترة وجيزة من الزمن وهو بهذه الحال لم يكن شعره إلا شجاعةً ومديحاً وهجاءً وحكمةً فلم يهبط بشعره كما هبط هو بنفسه بل ظل شعره مليئاً بالحكمة والجزالة باللفظ، وقصيدته التالية تشهد له بذلك فهو القائل:


إذا كنت في حاجة مرسلاً
فأرسل حكيماً ولا توصه
وإن ناصح منك يوماً دنا
فلا تنأ عنه ولا تقصه
وإن باب أمر عليك التوى
فشاور لبيباً ولا تعصه
وذو الحق لا تنقص حقه
فإن القطعية في نقصه
ولا تذكر الدهر في مجلس
حديثا إذا أنت لم تحصه
ونص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
ولا تحرص فرب امرئ
حريص وضاع على حرصه
وكم من فتى ساقط عقله
وقد يعجب الناس في شخصه
وآخر تحسبه أنوكا
ويأتيك بالأمر من فصه
لبست الليالي فأدبنني
وسربلني الدهر في قمصه

فهذا شعر مليء بالحكمة لم يعكس قط ما كان طرفة يزاوله من إسراف في مأكله ومشربه وإنفاق المال في غير محله مما جعل عشيرته تحتار في أمره وتحن عليه تارة وتغضب عليه أخرى، غير أن بعض شعر الغزل لديه يبين نهجه في الإنفاق ونعومة عيشه فيقول في إحدى قصائده:


غنينا وما نخشى التفرق حقبة
كلانا غرير ناعم العيش بأجله

كما أنه عندما يتشبب بمحبوبته فإنه يمتدحها بالرفاهية والإنفاق ويصفها بمظاهر الثراء كما يعكس بيئة اللهو التي عاشها في إحدى قصائده فيقول:


تحسب الطرف عليها نجده
يا لقومي للشباب المبتكر

وقال:


وإذا تضحك تبدي حببا
كرضاب المسك بالماء الحفر

وحسبنا من كل ذلك أن ندرك وجود هذين النهجين المتناقضين، فأبو العتاهية أوجد لنفسه مسلكاً اقتصادياً حببه إلى نفسه فأحبه ودعا غيره إلى اتباعه عبر قصائده التي جلها في الحث على هذا المنهج لاقتناعه بجدواه الاقتصادية وأنه سبيل أمثل لراحة البال والطمأنينة لعيش المرء عيشة هادئة مطمئنة تجعله أكثر تقبلاً لنوائب الدهر، واقتناعاً باليسير من هذه الدنيا الفانية، وفي المقابل نجد أن طرفة قد أسرف في لهوه وإنفاقه المال في غير محله رغم أنه لم يكن حريصاً على جمع الدنيا بقدر ما كان حريصاً على إنفاقها، وإنفاق المال يتطلب وجوده فسعى له بسيفه لسانه ليبلغ مرامه في الحصول على المال ومن ثم إنفاقه ولا سيما أن عشيرته قد نفته لطبعه الذي لا يتلاءم مع سلوكهم وطبائعهم التي كانت قانوناً عرفياً منعياً.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved