Tuesday 18th July,200612346العددالثلاثاء 22 ,جمادى الثانية 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

وفي الناس بوقات له وطبول ..! 1 - 2 وفي الناس بوقات له وطبول ..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل

يقول المتنبي وهو يمدح مثلَه الأعلى:


(إذا كانَ بعضُ الناسِ سَيفاً لِدَولَةٍ
فَفي الناسِ بوقاتٌ لَها وَطُبولُ)

والعلاقة خارج السياق اللغوي بين الصفتين، أنّ السيوف مع صغرها وخفتها تحسم المواقف. والبوقات والطبول مع كبرها وصخبها لا تزيد المستمع إلاّ ترفاً واسترخاء، وهي في النهاية إضافة فارغة لتفويت الفرص، وتضييع الوقت. وكم نسمع، ونرى في مشاهدنا العربية منذ الصدمة الأولى للمدنية الغربية على يد (الطهطاويين) وعقبهم من لا يتجاوز بنفسه مهمة البوق والطبل لمدنية الغرب وحضارته، وما يكتنفهما من ممارسات مخلّة بالقيم الإنسانية. والناس حين يسمعون بالطّبل والبوق، أو يستمعون إليهما، يتبادر إلى أذهانهم الفراغ والصراخ، الفراغ من المحتوى، والصراخ المحقّق لمقولة (العرب ظاهرة صوتية). وكلّما كبر الطَّبل أصبح له دويٌّ كدويِّ النَّحل، مع الفارق المذهل بين مملكة النحل وطحن القرون.
وإذ نسلِّم بسنن الله التي يحكم بها الكون، ويدبره، لا نقيد أنفسنا بالإذعان، ولا نرغبها بالاستسلام، ولا نزين لها الركون للواقع المؤلم الذي يعيشه عالمنا العربي، عالم الاستهلاك والإهلاك والتعالي كالدخان. فالله جلَّ وعلا قضى وقدَّر، وأجرى القلم بما هو كائن، وهذه السُّنن النافذة ذات أنواط: سنن مناطها المادة الخالصة. وأخرى مشوبة، وهي بالمعنوية ألصق ك:
- الصراع.
- والتداول.
- والتدافُعْ.
ومع نفاذ تلك السنن، فإنّ لله وعداً لا يُخلفه، وله إرادة كونية لا ترد {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} «الإنسان: 30». وإرادة شرعية {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} «الزمر: 7» وفي ظلِّها تكون مشيئة الإنسان {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} «الكهف: 29»، وأمام كلِّ هذه السنن والإرادات يظل الإنسان تحت طائلة التكليف والمحاسبة والثواب والعقاب. وبالعمل تتحدُّد أمانة التكليف، التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبيْن أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان ظلماً وجهلاً. ومن ثم فليس له أن يستسلم، ولا أن يحتج بالقدر. والذين يفغرون أفواههم أمام مدنية الغرب، ويذهلون عما يملكون من استعداد ذاتي، وقدرة على الفعل والتفاعل، يسلِّمون بأزلية التفوُّق الغربي وحق الهيمنة. ولا يجدون حرجاً من الخنوع، واستبعاد القدرة والمبادرة. ولا يتردَّدون في التسابق لتسويق قيم الحضارة الغربية ومبادئها المناقضة لقيم الحضارة الإسلامية، كما يستعذبون الذب المتواصل عن عواجيز أصحابها، والشرعنة لمصطلحاتها ومناهجها وآلياتها، التي يرون أنّها وحدها القادرة على معالجة تخلُّفهم. ولأنّهم مأخوذون باتباع أهل الكتاب حذو القذة بالقذة، فإنّهم يستحضرون ما فعله الغرب من نفي لهيمنة كنائسهم وقسِّيسيهم. وحين تكون حضارة الغرب وإنسانها عند هؤلاء المرجع والمثل الأعلى. فإنّها تعشو عيونهم عن مقترفات تلك الحضارة، وكأنّ الله قد حولَّهم إلى أبواق وطبول، يهتفون بمواكبها القادمة لإذلالهم، وإفساد أخلاقهم، وتفريق كلمتهم، ومناصرة أعدائهم الذين اغتصبوا أرضهم، وشرّدوا أهلها. وحجُّتهم أنّ من هذه الحضارة الإبرة والصاروخ، والورق والأحبار، والمأكل والمشرب، والعلاج والشفاء، والمواصلات والاتصالات. وكأنّ شيئاً من هذه الإمكانيات لا يكون لنا منها شيء إلاّ بثمن من عقيدتنا، وقدر من تراثنا، وشيء من المساس بمكانة عظمائنا. وفي مقابل ذلك نجد من ينفي حضارة الغرب، ولا يراها إلاّ جاهلية جهلاء، لربطه الحضارة وجوداً وعدماً بالقيم العقدية الإسلامية، وذلك بعض الخلاف بين (سيد قطب) و(مالك بن نبي) - رحمهما الله -، وهو خلاف عميق لتوسله بشواهد معرفية، ليست على شاكلة ما نسمعه من طائفتي الإفراط والتفريط في زماننا الردئ.
والبوقات والطبول حين يتوّلون الغرب، ويوالونهم لا يفرِّقون بين الحضارة والمدنية، ويظنون أنّ الأخذ بالقيم المادية، لا يتأتّى إلاّ بتقمُّص القيم الحضارية. والجهل المطبق لم يمكنهم من التفريق بين مقتضيات (المدنية) و(الحضارة)، ولو أنّ البوقات والطبول أحسنوا الفهم، وأدركوا الفرق بين الماديات المشتركة والمعنويات الخاصة، لأمكن الأخذ بالأسباب، والتصرُّف بأمور الدنيا وفق المقاصد. وإذ هيئت أسباب التفوُّق المادي للغرب بالتخلُّص من هيمنة الكنيسة، وسلطان الكهنة، والدخول في العلمنة الشاملة، تصوّرت طائفة من التنويريين أنّ إقالة العثرة العربية لا تكون إلاّ بمثل ما أقيلت به عثرة الغرب، من نفي للدين، واستدبار لأهل الذِّكر. وهذه الهواجس والتطلُّعات غير الممكنة أطالت زمن التيه، وأدّت إلى فوات الفرص، وما استبق (اليابان) خيرات الغرب بنفي دينه والتخلِّي عن قيمه. لقد كان بإمكاننا تبادل المنافع في الجانب المادي، وإعادة النظر في التطبيق الحضاري الإسلامي. فالحضارة الإسلامية حضارة شمولية مرنة ومنفتحة لأكثر من تأويل، متى استطاع أهلها تمثُّلها، والأخذ بفسحها. ومن عثرات البوقات والطبول أنّهم يخلطون بين مفهومي (عالمية الرسالة) و(شمولية الإسلام)، وهو خلط يفوِّت على المتابع فهم المصطلحات على وجهها، وما أردى المشاهد، وأطال فيها المكاء والتصدية والصوت والدوي، إلاّ اضطراب المفاهيم، وتقحم المبتدئين. والمحبطون الذين تحوّلوا إلى بوقات وطبول لحضارة الغرب فوّتوا على الأُمّة الاستفادة من مدنيته، بحيث ظللنا استهلاكيين أُميين. ويا ليتهم إذ قنعوا به، خلعوا أقنعة التمويه، واعتمدوا القول الصراح، لنعرف من نكون، وما موقعنا بين الأمم، إذ ليس من مصلحة الأُمّة أن يكون فيها من يقولون: آمنّا، فإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنَّا معكم. وإشكالية الأُمّة العربية منذ حملة (نابليون) إلى حملة (بوش) إنّها مضطربة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
وأزمتنا القاتلة أنّنا اصطفينا من سائر الحضارات والمدنيات حضارة الغرب، لاستهلاك منتجها، وتصنيم مبادئها، وتعظيم رموزها، فيما اصطفتنا للذل والهوان، وتمكين الأقلية اليهودية من الرقاب، تقتل الأبناء، وتذل النساء، ولماَّ نجد بداً من التحدُّث عن كلِّ شيء في الوجود من خلال التفكير الغربي، والرؤية الغربية، والتجربة الغربية، والمرجعية الغربية. ولقد أدّى هذا الانصياع الطوعي أو الاضطراري إلى نسيان التراث العربي، ونشوء القطيعة معه، والزهادة فيه. فالذين يتحدثون عن اللغة على - سبيل المثال -، يحيلون إلى المستجد من المناهج والآليات، وليس هناك ما يمنع من الاستعانة والاستزادة، ولكن المانع أن ندع تراثنا اللغوي المتمثّل بالمدارس النحوية واللغوية العريقة والعميقة، سواء منها ما يتعلَّق بنظام اللغة، أو بجذورها، أو بمادئها أو بدلالاتها المتعدِّدة في حقول الحقيقة والمجاز والسياق. ومن أولئك من لا يكتفي بالعدول عن التراث جهلاً أو تجاهلاً، بل ينال منه، ويسخر به، وقد يحكم بموته. ولك أن تقول مثل ذلك عن سائر القضايا والتيارات والمذاهب الفنية المتعلِّقة بالإبداع القولي. وما (الحداثوية) إلاّ عين الانقطاع، وبدون القطيعة لا تكون الحداثة حداثة. هذا التعويل المطلق وغير المشروط حكم علينا بالاستغراب المدان. وحين نشجب التهافت، فإنّنا لا نمنع من الاستكناه والاستثمار والاستفادة والتفاعل والتعايش السلمي، وتبادل المصالح والوفاء بالعهود والمواثيق. والمتهافتون لكي يمنحوا استغرابهم المعقولية، يتهمون خصومهم بالمقاطعة والمقاومة والانعزال. وما اعتقده أنّنا أحوج ما نكون إلى مدنية الغرب، وإلى شيء من مناهجه وأساليب تعامله، ولكن تلك الحاجة لا تستدعي إلغاء الذات وما يحييها.
وما من مفكِّر إسلامي يعي واقعه، إلاّ هو على بيِّنة من أمر العلاقة بين الحضارات، ولا يتم التصوُّر السليم لحوار الحضارات إلاّ إذا استثمرت القواسم المشتركة، وليس هناك حضارة في الوجود ليست لها قواسم مشتركة مع أيِّ حضارة، وليست هناك حضارة مستغنية عن مستجد الحضارات الأخرى، وكيف يحقُّ لنا إغلاق أبوابنا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: - الحقُّ ضالة المؤمن، وأنتم أدرى بأمور دنياكم. فكلّ نافع لا يخالف المقتضى الإسلامي حقٌّ مطلوب، وإن كان يهودي الانتماء أو نصرانية، ورد شيء منه بحجة انتمائه أو مصدريّته تقليص للشمولية. والذين ينفون تراثهم بحجة جلب المصالح، ليسوا على شيء من الوعي بتداخل الحضارات وتوارثها، وما هم في حقيقة الأمر إلاّ بوقات وطبول لمن سامهم الخسف. والمتهافتون على منجزات الغرب، يظنون كلَّ الظن أنّ حضارتهم عاقر، قد بلغت من الكبر عتيا، وأنّها غير قادرة على المبادرات. ولقد أدّت دعاية الغرب أثرها، واستحوذت على ملكات معطّلة، لا تملك إلاّ الضجيج الفارغ، والاستهلاك النَّهم. والآخذون بمناهج الغرب في الفنون يوازيهم من يأخذ بمبادئه وسائر شؤونه. ولعلّ الانفتاح على الشرق مؤذن بيقظة جزئية، وإن كانت تلك المبادرة متأخرة، فالشرق له حضارته ومدنيته، والسعي لتعدُّد المصادر مؤذن بقمع الهيمنة الغربية، وإزالة الغشاوة عن عيون المبهورين.
والذين يتحدثون عن الفكر السياسي، ليسوا بأحسن حالاً ممن يتحدثون عن سائر الفنون والمعارف، إذ يظنون أنّ الغرب وحده الذي أسّس للسياسة، وأنشأها من العدم، وسنّ لها السنن، وقعّد لها القواعد، وأصّل لها الأصول، فكان أحقّ بها وأهلها، وأنّ التاريخ الإسلامي لا ينفك من ذكر الغزوات والسرايا والحروب والقصور والجواري والغلمان، وأنّ الحضارة الإسلامية لم تتعرّض للقوانين السياسية. والقائلون بهذا عالة على مفتريات الاستشراق، ولو أنّهم نقّبوا في غيابة التاريخ، ونشروا صحف التراث، لأدركوا أنّ الحضارة الغربية أتى عليها حين من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً، وأنّ الحضارة الإسلامية وضعت أسساً للفكر السياسي، لم تَسْبِق إليه أيُّ حضارة. ويكفي أن نشير إلى أنّ قضية (الإمامة) وحدها عولجت بأكثر من عشرين كتاباً، ظهر أوّلها في القرن الثاني الهجري، ولقد دقَّت رؤية الفقهاء، وتنازعتهم مصادر التشريع، واختلفت مذاهبهم في الشأن السياسي: تنظيراً وتطبيقاً، حتى لقد نسلت نحلة (الإرجاء) من الفعل السياسي، وكانت لكلِّ طائفة رؤية سياسية، تختلف عن سائر الرؤى. هذا التراث المنسي في غمرة الانبهار حَفز المنصفين من المستشرقين على القول بفضل الحضارة الإسلامية في سائر حقول المعرفة.
ولمّا كانت الحضارة الإسلامية قد بدأت بالمشافهة والرواية، فقد اهتم العلماء بالرصد التاريخي للخلافة الراشدة التي تمثِّل جذور الفكر السياسي. وبوادر النظم والإجراءات تدل على وعي مبكر بأهمية الخلافة وتداول السُّلطة ومهمّاتها.
والفقه الإسلامي عالج المسؤولية السياسية ضمن ما عالج من قضايا، وقد واكب الفقهاءَ موسوعيون، تناولوا موضوعات ذات مساس قوي بالسياسة ك(الخراج) و(الجند). ولعلّنا نشير إلى يقظة (ابن تيمية) الذي عاش مرحلة الضعف والتفكُّك وحروب التتار، فألّف في السياسة الشرعية ومتعلّقاتها من (ولاء وبراء) و(جهاد) تقتضيه المرحلة، ما يدل على وعي تام بمقوّمات الدولة، وشروط الخليفة، وأهمية الجهاد. ولم يقتصر تناول الشؤون السياسية على الفقهاء، وإنّما اهتم بها الفلاسفة: ك(الفارابي) و(ابن سيناء) و(ابن الصائغ)، وبعض هؤلاء وضعوا نظريات، ولم يعالجوا وقوعات، واستشفوا حضارات سادت ثم بادت. فكان لهم الفضل في حفظ التراث الإنساني، وليس ببعيد ما يتداوله فلاسفة الحكم في العصر الحديث كما تناوله (العقاد) في كتاب مستقل. وأمام هذا الفيض لم تلتفت البوقات والطبول إلى شيء من ذلك، لا قدحاً ولا مدحاً ولا إضافة، وما أضرّ بالأُمّة إلاّ انتزاع العلم الذي أخبر به من لا ينطق عن الهوى، وهو من أشراط الساعة، وها نحن نسمع ونرى من يتحدث عن (الجهاد) و(الولاء) و(البراء) و(الخلافة) وغيرها، وهو لا يعرف الدليل، وإذا عرفه لا يفقهه، ومع هذا يتصدّى لكبار الفقهاء المؤصلين، بكلام لا يضبطه أصل، ولا تحكمه قاعدة.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved