Wednesday 9th August,200612368العددالاربعاء 15 ,رجب 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

مركاز مركاز
المنازل القديمة - 4 -
حسين علي حسين

عندما تكون طفلاً لا يمكن أن تلم بدقائق الأمور التي تجري حولك، لكنك بالتأكيد سوف تتذكر مجمل ما يحدث أو يكون قد حدث حولك، ومن ذلك فإنني أتذكر أزمة حصلت في حارتنا في منتصف السبعينات الهجرية، وبالضبط بعد عيد الفطر، دفعت أهل الحارة لأن ينشئوا في وسطها قرية كاملة يبيعون ويشترون فيها مع بعضهم، ماهي ظروف تلك الأزمة؟ لماذا حدث ما حدث؟ وما هو دور سكان الحارة فيه؟ أسئلة كثيرة مجملها حصول معركة في بعض أحياء المدينة بالنبابيت، سببها مجموعة من الأشقياء استضعفوا أهل الحارة، فكان ما كان، بعد هذه المعركة أو الفتنة، شقت الحارة من نصفها، ليمتد شارع من الحرم النبوي، حتى مسجد قباء، طور بعد ذلك عدة مرات، ليستوي على ما هو عليه الآن!
أنا في ذلك العام كنت بين السادسة والخامسة من عمري، لأنني دخلت المدرسة الابتدائية في العام 1378 هـ وعندي إلى الآن شهادة نجاحي من الأولى إلى الثانية ابتدائي، كنا في مدرسة أهلية تقدم الطعام والكسوة والنقود، ولا يتقاضى أصحابها أي رسوم على الطلاب، وكان صاحب المدرسة الشيخ أحمد فيض أبادي، أذكر أن ابنه كان يخرج من صلاة الصبح ليجلس على طاولة، أو مقعد أمام المدرسة حتى يدخل التلاميذ، ثم يقوم متجهاً إلى داره أو عمله. كانت هذه المدرسة ثمرة خير، أكل منها كل المساكين والفقراء، لا فرق بين طلابها من المواطنين أو المجاورين، كلهم يعاملون على قدم المساواة، وكانت هذه المدرسة، تأخذ كل من يدخلها بالحزم والشدة وهي تقدم العديد من المزايا، للمتفوقين من أبنائها، ومازالت هذه المدرسة موجودة إلى الآن!
عندما شقت الحارة من منتصفها كان منزلنا من المنازل التي شملها الهدم، ولم يجد والدي حتى يجد لنا مسكناً بديلاً، سوى استئجار مزرعة أو بلاد (بلهجة أهل المدينة) طوال فصل الصيف، وسوف يجني من ذلك فوائد جمة، البعد عن طقس المدينة اللاهب، التمتع بالخضرة والمياه الجارية والمسبح أو البركة، بيع محصول المزرعة، وبذلك فإنه يسترجع كل ما دفعه لصاحب المزرعة، وقد انتقلنا بعد الانتهاء من فصل الصيف إلى منزل جديد، مساحته مخزنان (83م) مكون من دورين، ومبنى من الحجر والطين واللبن، يشرف البيت من واجته الجنوبية على سكة عرضها أربعة أمتار تقريباً، ولا يتجاوز طولها المئة متر، وهذه السكة تنتهي من الجهة الغربية، إلى الشارع العام، المؤدي من الشمال إلى المسجد النبوي، والبقيع ومن الجنوب إلى مسجد قباء وقربان، أما من الناحية الشرقية، فإن هذه السكة تنتهي إلى منطقة سد، أما الواجهة الغربية فإنها أيضاً تقع على سكة، عرضها لا يزيد على متر ونصف، وهي أيضاً تنتهي من الجنوب إلى الشمال إلى شارع سد، وهكذا كافة البيوت التي تجاورنا صغيرة ومبنية من مواد واحدة، وكافة السكان في هذه المنطقة التي كنا نسميها (الزوق) كانوا من بيئة واحدة، وتكاد تربطهم علاقة أسرية وعشائرية واحدة، فهم يتزاورون ويتبادلون المنافع مع بعضهم البعض، بل إن كل همسة في بيت من بيوت (الزوق) كانت تصل إلى كافة البيوت أولاً بأول، وكان من نسائه من يطلق عليها (البرقية) لبراعتها في نقل الحكايات، لكن هذا (الزوق) اخترق ثلاث مرات متتالية أثناء وجودنا فيه، المرة الأولى اقتران أحد السكان الموسرين بزوجة من مصر، على زوجته التي تسكن في حي آخر، وكان صوتها قوياً، للحد الذي كنا نرصده أولاً بأول، أما المرة الثانية فكانت عندما سكن (الزوق) رجل من مكة المكرمة، وكان رجلاً غامضاً، أسمر ويلبس عباءة بنية، ولا يضع عقالاً على رأسه، وكان يدخل ويخرج من المنزل الذي استأجره على عجل، وقد عرفنا من خلال خالتنا (البرقية) أن له علاقة بالحجاج العجم، وربما كان مندوباً لوالده أو أخيه الذي يعمل مطوفاً لهم، ولم يمكث هذا الزائر سوى شهور قليلة، غادرنا بعدها، ليبدأ نسج الحكايات حوله، وقد عرفت بعد ذلك معلومات كافية عنه، فعائلته من أعرق العائلات في مكة المكرمة وكانت ترتبط بالحاج الإيراني ومازالت، وإن كانت القاعدة قد توسعت، فبدلاً من أن يطوف حجاج إيران أو شرق آسيا أو مصر، مطوف واحد، أصبح هناك أكثر من مطوف، مثلما في المدينة المنورة أكثر من مزور لحجاج البلد الواحد!
أما الاختراق الثالث والأخير، فقد تمثل في إلقاء القبض على رجل كان يتعاطى المسكر بعد دخوله (الزوق) هارباً، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها النقيب والعمدة ورجل شرطة، يأخذون شخصاً وهو يهذي، فقد كنا نسمع عن (السكرجية) ومجرد سماعنا بهم كان كافياً لإدخال الرعب في نفوسنا، خاصة وأن ذكرهم ارتبط في أذهاننا بالعربجية ونازحي البيارات والمتشردين والمشكلجية، فسبحان مغير الأحوال!!
أما أبرز ذكرى أحتفظ بها لمنزل (الزوق) فهي سقوط حصوة كبيرة على جبهتي، مازالت علامتها واضحة ومحددة حتى الآن، ولو كانت أكبر مما هي عليه، فربما كان رأسي كله قد تحول إلى عدم..
ولما قدر لي أن أروي ما رويت عن منزل (الزوق) الذي شهد ولادة أربعة من إخوتي، محمد (رحمه الله) ومنسي وحمزة (رحمه الله) وسلمان.. ونحن فيه اقترن والدي بزوجته الثانية والأخيرة، ومنه انتقلنا إلى منزل (المراكشية) المسلح والمكيف الهواء!!

014533173 فاكس

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved