من فترة والسوق بدأ يتعافى، ليس على مستوى أداء مؤشره ولكن تعافى من سيل القرارات العشوائية التي انتابته خلال فترة ما قبل 12 مايو الماضي، تلك القرارات التي تسببت في فقدان الثقة في السوق أكثر من كونها أدت إلى استقراره. فأي قرار يصدر من دون دراسة كافية قد يتسبب في آثار سلبية تتجاوز إيجابياته، وتعج بوتقة سوق الأسهم بالعديد منها التي على رغم أنها حدت من عامل سلبي معين إلا أن بعضاً منها قاد إلى آثار سلبية أوسع.
وفي هذا السياق تعدُّ القرارات المؤثرة على حجم السيولة النقدية المتداولة في السوق من أخطر القرارات مهما تهاون البعض في التنبؤ بآثارها. وللسوق تجارب عديدة في الماضي، على سبيل المثال قرارات إيقاف كبار المتلاعبين بالسوق، تلك القرارات التي حدت من تلاعبات كبار المتداولين في السوق لدرجة أنها وصلت في فترة معينة إلى إحجامهم عن التداول، وأدت إلى سحب قدر هائل من السيولة النقدية بما تسبَّب ليس في اضطراب السوق ولكن في سقوط مدوٍّ لفترة زمنية طويلة نسبياً؛ أي أن قرارات الإيقاف أدت لسلبيات تفوق آثارها الإيجابية الصريحة.
بالنسبة لقرار منع إلغاء أوامر البيع والشراء قبل بدء السوق فالكل يعلم مدى تأثير تلك العمليات الوهمية التي يقوم بها كبار المتداولين قبل بدء السوق، تلك العمليات التي تأخذ شكل أوامر بيع أو شراء بكميات كبيرة تستهدف التأثير على نفسية المتداولين من خلال إيحاءات غير حقيقية، إما تحفزهم ناحية أسهم معينة وإما تثبطهم عن أسهم أخرى، بل ربما تخلق اتجاهات تشاؤمية أو تفاؤلية غير حقيقية عن حالة ووضع واستقرار السوق ككل. وهنا يكون تأثير تلك العمليات الوهمية تأثيراً سلبياً واسعاً، وبخاصة على صغار المستثمرين الذين لا يتمكنون من التمييز بين ما هو حقيقي وما هو وهمي، فضلاً عن فشلهم في غالبية الأحيان في التنبؤ بالأثر الحقيقي لتلك العمليات.
ولكن دعنا نعُدْ لماهية السوق، فما معنى (سوق)؟ وماذا تعني قوى العرض والطلب؟ وما هي؟ وكيف تكون حالة المنافسة الكاملة إذا تم التدخل للتأثير على قوى العرض والطلب سواء بالحد منها أو بتحجيمها بفترة أو كمية أو سوق معين؟
على رغم التعاطف - وأقول التعاطف - مع الحالات الكثيرة التي يتم فيها التأثير على الحالة النفسية لصغار المستثمرين التي تتسبب في خسائر هائلة لهم إلا أن تلك هي طبيعة الأسواق، فلا مجال للعاطفة في سوق يتعامل ليس في سلع ومنتجات ملموسة، ولكن سوق يتعامل في سلعة المال. وهنا نود أن نتساءل: هل المشكلة في ضعف درجة وعي صغار المستثمرين أم في احترافية وتلاعب كبار المتداولين؟ فأيٌّ من كبار المتداولين عندما يطرح أمراً شرائياً أو بيعياً بكميات كبيرة في السوق لا يعدُّ متلاعباً، بل من الصعوبة التفرقة بين الأمر الحقيقي الذي تم إلغاؤه بناءً على معطيات سوقية وبين الأمر الوهمي المقصود من ورائه التغرير بعوام المستثمرين، فبافتراض أن نسبة من كبار المتداولين بالفعل تستهدف خلق إيحاءات كاذبة من وراء أوامر وهمية إلا أنه في نفس الوقت تصدر العديد من الأوامر الأخرى الحقيقية من النسبة الأكبر من كبار المتداولين؛ بمعنى أن تلك الأوامر البيعية أو الشرائية التي تصدر قبل بدء السوق منها ما هو حقيقي ومنها ما هو وهمي. ونأتي للإلغاء نجد أن بعض تلك الأوامر الملغاة تم إلغاؤها بناءً على معطيات ترتبط بالسهم أو بالسوق أو لمعرفة خبر طارئ أو غيرها من الأسباب المنطقية للإلغاء. في المقابل نجد أن أوامر أخرى تلغى ليس لسبب منطقي سوى أنها استهدفت خلق إيحاءات وهمية معينة للتأثير على عوام المستثمرين.
فماذا سيحدث بتطبيق قرار منع الإلغاء؟ بالطبع سيُطبَّق على الجميع على الأوامر الحقيقية وعلى الأوامر الوهمية. وما هي النتيجة؟ بالطبع سيتم بالفعل منع العمليات الوهمية، ولكن مع إلحاق الضرر ببعض المتداولين الذين تم منعهم من إلغاء أمر معين لم يكن وهمياً. وهنا يكون السوق قد خلق قيداً على سرعة وصول المعلومات وتأثيرها على الأسعار السوقية للأسهم التي في الأساس هي المعيار الأساسي للتفرقة بين الرابحين والخاسرين في السوق. فعلى رغم أننا نتكلم عن عدد صغير من الساعات قبل بدء التداول إلا أن هذا القدر الصغير قد يتسبب في ظل تطبيق هذا القرار في خسائر كبيرة لمنع المتداول من التفاعل أو الاستجابة لمعلومة معينة وصلته بعد صدور أمر بيعي أو شرائي معين؛ أي أن هذا القرار يخلُّ بمفهوم السوق خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة قبل بدء التداول.من هنا يتضح أن سلبيات القرار قد تفوق إيجابياته؛ لأنه سيقيد حركة السيولة لكبار المتداولين، بل سيتدخل مباشرة في التأثير على قوى العرض والطلب (الشراء والبيع) بما سيضيق الخناق على كبار المضاربين. ومن ثَمَّ قد يصل الأمر إلى إحجامهم عن السوق. باختصار، فإن الجميع يدرك الآن أن تأثير العمليات الوهمية وتلاعبات كبار المضاربين لم يصل حدّ ضررها إلى المدى الكبير الحادث جراء قرار إيقاف بعض كبار المضاربين في مارس الذي أدى إلى إحجام عدد كبير منهم عن التداول وخروجهم من السوق؛ أي أن إحجام كبار المتداولين يعد أكثر ضرراً وخطراً على السوق من العمليات الوهمية التي يقومون بها، وأزمة استمرار وتواصل الهبوط في مارس وإبريل أكبر دليل.
لا مجال للعاطفة ولا مجال لحسن النية في سوق مثل سوق الأسهم، فالمشكلة في حقيقتها انخفاض في درجة الوعي لعوام المستثمرين، وليس في احترافية كبار المتداولين. إن المشكلة ليست في المهارة الفائقة لكبار المتداولين بقدر ما هي تلك الفجوة بينهم وبين صغار المستثمرين. وينبغي أن نشيد بالحملة المكثفة التي قادتها وتقودها هيئة السوق المالية لرفع درجة الوعي الاستثماري لدى عوام المتداولين. ولعل الحل البديل لمثل هذا القرار يمكن أن يكون في نفس الطريق من خلال ليس منع إلغاء أوامر البيع والشراء ولكن من خلال رفع درجة وعي المستثمرين بالعمليات الوهمية، وكيف ومتى تحدث، ومؤشرات ودلائل حدوثها، وتقديم النصائح الضرورية لعدم الوقوع في فخها.
(*) محلل اقتصادي ومالي |