في ظروف مثل التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية لا أجد مبرراً على الإطلاق لهذه الشنشنات الطائفية والمذهبية التي ارتفعت أصوات بعضهم بها في الآونة الأخيرة في العراق، من حديث يتطاير مشؤوماً بين حين وآخر عن أهل الشيعة وأهل السنّة في الوقت الذي يحدق فيه خطر الموت والتدمير بهؤلاء وأولئك، ولا تُفرِّق قنابل أعدائهما - رغم ذكائها - بين من هو شيعي ومن هو سنِّي، أو حتى بين من هو مسيحي ومن هو مسلم، أياً كانت طائفة أيٍّ منهما.
ولا تملك إلاّ أن تتساءل متعجباً: هل هو جهل وغفلة، أم أنه شيء مقصود ومتعمد بوعي؟!
وإذا كان مقصوداً بوعي فلأي هدف وغاية؟!
يبدو الأمر وكأننا لا نتعلم شيئاً من تجاربنا، دع عنك أن نعتبر من تجارب الآخرين التاريخية.
إن عدونا لا يعبأ بطوائفنا الصغيرة هذي، وهو يتعامل معنا باعتبارنا كتلة ثقافية وجغرافية وتاريخية واحدة.
فهل إدراك هذا يحتاج إلى دروس خصوصية أيضاً؟!
وفي هذه الكتلة لا يفرق بين المسلم والمسيحي!
هل تذكرون أيام حصار أبو عمار؟ ألم تحاصر القوات الإسرائيلية كنيسة المهد وهي أكثر رموز المسيحية زخماً روحياً؟ ألم تطلق النار والقنابل والغاز المسيل للدموع فيها ولم تحفظ كرامة، لا لها، ولا للرهبان والراهبات داخلها؟ أرأيتم هل ثارت يومئذ الحمية الدينية في الغرب المسيحي، وفي الولايات المتحدة التي تعج ممرات بيتها الأبيض بالأصوليين والقساوسة ذوي (الكرافتات)؟!
لماذا لم تثر ثائرة (الغرب المسيحي) على هذا الانتهاك الصفيق لواحد من رموزه الدينية المقدسة؟ لماذا لم تملأ شوارعه المظاهرات المليونية المنددة بهذا العدوان الفاضح على مقدساتهم؟
الإجابة ببساطة؛ لأن هذا كان يحدث (هناك) بعيداً، في الشرق العربي، ويحدث للعرب، سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين.
وربما مع هذه الإجابة: (يستاهلون) تزيح الهم عن الصدور والضمائر.
وفي حرب ال (33) يوماً الأخيرة هل لاحظتم أي سلوك انتقائي لقنابل إسرائيل الأمريكية الذكية في قصفها التدميري للبنانيين في الجنوب؟ فتسقط على الشيعي وتستثني السني والمسيحي؟!
لقد كانت القنابل عمياء في عدالتها العدوانية تسقط كيفما اتفق على الجميع؛ فكلهم أعداء، في وقت كانت فيه المباني تسقط على رؤوس من احتمى بها من النساء والأطفال والشيوخ والجثث متناثرة على الطرقات وتحت الركام وداخل السيارات الهاربة بأصحابها من قصف الصهاينة العشوائي.
والآن وقد توقف القصف - ربما مؤقتاً - وأرض لبنان لم تتطهر بعد من دنس وجود القوات الإسرائيلية عليها.
لذا فإن تجربة ال (33) يوماً رغم الخسائر الفادحة في الأرواح والمذابح والتدمير والتشريد قد كشفت عن أمرين سيفيدان مستقبل هذه الأمة؛ الأمر الأول هو أنه لم يعد ثمة وقت ولا فرصة للمغامرين بغير حساب، أو للمغامرة مهما دقت حساباتها، ويُحسب لصالح حسن نصر الله اعترافه بهذه الحقيقة.
الأمر الثاني: إن هذه الأمة - أمة محمد - في حقيقة أمرها على قلب رجل واحد حين تشتد الأزمة، وأنها مثلما قال رسول الله عنها كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وأن هذه الأمة مثلما تجاوزت خلافاتها المذهبية وقفزت فوق حواجزها الطائفية في وقت الشدة والأزمة، تستطيع أن تفعل الشيء نفسه، تخطيطاً للمستقبل لتأخذ بأسباب القوة السياسية والاقتصادية والثقافية، وأن تأخذ بيد بعضها مع بعض وعياً منها بحتمية التوحيد والتعاضد والتكافل، إذ لا مكان في عالم اليوم لأمة ممزقة متشرذمة ضعيفة، وأن لا نهوض لبعض جسدها في الوقت الذي تعاني فيه أعضاؤها الأخرى من المرض والضعف والهزل.
وأخيراً إذا كان لنا أن نقلق وأن تساورنا الهواجس، فلنقلق لإصرار مسعود برزاني على إنزال العلم العراقي من المرافق الرسمية من كردستان، وتهديده بإعلان انفصال الإقليم إذا ناقش البرلمان العراقي هذه المسألة!!
فهذا ما يثير القلق حقاً.
* أكاديمي وكاتب سعودي
|